فقد أخذت في التأسيس لتعاون اقتصادي وسياسي متميز في العالم الإسلامي والمتوسطي شعاره "الكل رابحون"، رغم اختلاف ظروف كل طرف وإمكاناته، في أنموذج قلّ ما نجده في المنطقة.
وهو الأنموذج المطالب اليوم برفع سقف طموحاته وإنجازاته إلى مستوى أعلى، ولعل عقد الاجتماع الأول للمجلس الأعلى للتعاون بين البلدين الاثنين بأنقرة خطوة أولى لتحقيق هذه الأهداف رغم التحديات المحلية والدولية التي قد تقف في طريق هذه الشراكة.
تميز الشراكة الجزائرية-التركية يكمن فيما حققته اقتصادياً في ظرف زمني وجيز، فقبل 22 سنة لم يكن الاستثمار التركي في الجزائر يتعدى سبع شركات، ليرتفع اليوم إلى 1300 شركة تركية تنفذ مشاريع في الجزائر بقيمة 20 مليار دولار، وفق إحصاءات قدمتها وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية.
ولا بد من الاعتراف بأن وصول الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الحكم كان له دور في ذلك، بالنظر إلى أن نظرته في إعادة العلاقات التاريخية لأنقرة مع أصدقائها من دول شمال إفريقيا ساهم في التأسيس لهذه الشراكة المتميزة التي وُضع حجر أساسها بتوقيع البلدين اتفاق الصداقة والتعاون عام 2006 حين زار أردوغان الجزائر لأول مرة حينما كان رئيساً للحكومة، لتتوالى بعدها زياراته في 2013 و2014 و2018 و2021.
ولعل عدد جولات أردوغان إلى الجزائر تثبت اهتمامه بالشراكة معها، بالنظر إلى أن المقابل لم يحدث إلا مع قدوم الرئيس تبون الذي أعطى هو الآخر دفعاً جديداً لهذه العلاقات. فقد أعاد العام الماضي العمل باتفاقية الملاحة البحرية مع تركيا، وهي التي علقت عقدين من الزمن.
وتختلف العلاقات الجزائرية-التركية في كل شيء عن باقي نماذج التعاون التي تقيمها الجزائر مع الدول الغربية، بالنظر إلى أن اختلاف وجهات نظرهما حول بعض القضايا مثل سوريا لم يشكل يوماً نقطة تنافر وخصام.
فالبَلدان حرصا دائماً على النظر إلى الجزء الممتلئ من مجال تعاونهما، الأمر الذي سمح بتحقيق شراكة مبنية على مبدأ رابح-رابح، وهو ما يعكسه الاستثمار الجزائري في تركيا المتمثل في مصنع للبتروكيماويات لإنتاج مادة "البيلوبروبيلان" البلاستيكية بولاية أضنة بشراكة بين "سوناطراك" الجزائرية وشركة "رونيسانس هولدينغ" التركية، وبقيمة بلغت أكثر من 1.4 مليار دولار.
اختلاف التعاون التركي مع الجزائر في مجال الاقتصاد عن باقي الدول بخاصة الغربية منها واضح، لأنه لا ينظر إلى الدول نظرة الاستغلال والنهب من ثرواتها الطبيعية مثلما فعلت لسنوات فرنسا على سبيل المثال، بالنظر إلى أنه ركز حتى اليوم على مجالات خارج قطاع المحروقات الذي يثير شهية الشركات الغربية متعددة الجنسيات، فقد فضّل الأتراك أن تكون استثماراتهم في مجالات منتجة تساهم في رفع عائدات الجزائر من العملة الصعبة من خلال قطاعَي الحديد والصلب والنسيج، وبمصانع رائدة على المستوى الإفريقي.
الأكيد أن ما تحقق في مجال التعاون الاقتصادي بين البلدين يستحق الإطراء، لكنه يبقى في نظر الجميع أقل بكثير من حجم ما يمكن تحقيقه في شراكة بلدين يملكان كل مقومات النجاح.
فتقدم تركيا في قطاعات عدة معلوم لدى الكل إقليمياً وعالمياً، ومحورية الجزائر في المنطقة المتوسطية والإفريقية جليٌّ للجميع، لذلك سيكون تحقيق الهدف الذي وضعه رئيسا البلدين في الوصول إلى 10 مليارات من التبادل التجاري ممكناً، بالنظر إلى أهمية هذه الشراكة لكلا الطرفين في تعزيز وجودهما الاقتصادي في إفريقيا التي يراها الخبراء مستقبل الاقتصاد العالمي، كونها تظل منطقة استثمارية عذراء في عدة قطاعات.
وإذا كانت الجزائر تحتاج إلى الخبرة التركية في مجال ولوج الأسواق الخارجية وفي تطوير الصناعات الناشئة والمتوسطية لتصدير منتجاتها نحو القارة السمراء، فإن أنقرة التي تبحث اليوم عن وجود أكبر لها في إفريقيا بخاصة مع تراجع الدور الفرنسي ستستفيد من عضوية الجزائر في منطقة التبادل الحر الإفريقية، ومن مشاريع البنية التحتية التي تعمل على إنجازها لتسهيل التجارة الإفريقية، ولعل أبرزها الطريق العابر للصحراء الذي يربط ست دول أفريقية منها مالي والنيجر وموريتانيا وتونس، ومشاريع السكك الحديدية التي ستربط بدول الساحل الإفريقي بدءاً بالنيجر، كما ستربط هذه المسالك بميناء كبير سيقام بمنطقة الحمدانية بولاية تيبازة المطلة على البحر الأبيض المتوسط والمحاذية للعاصمة الجزائر.
من الملاحظ اليوم أن الجزائر وتركيا لا تريدان حصر تعاونهما في مجال معين، لذلك وقعتا اتفاقات جديدة في التربية والتعليم والتكنولوجيا والصيد البحري والأشغال العمومية والبيئة وغيرها، لتشمل مستقبلاً المجال الدفاعي الذي يظل غائباً عن قوتين دفاعيتين بارزتين في المنطقة، فالجيش التركي يحتل المرتبة الـ13 عالمياً، ونظيره الجزائري جاء في المرتبة الـ31 عالمياً، لذلك ستسمح المباحثات التي بدأت بين الطرفين بتعزيز الشراكة العسكرية والدفاعية بين الطرفين.
ولمواصلة هذا التطور في التعاون بين البلدين المتسم بتوافق في وجهات النظر حول عدة أزمات دولية كفلسطين وليبيا والساحل يجب على الجانبين عدم إغفال تطوير التعاون الثقافي والمجتمعي، والذي سيكون منطلقه إلغاء تأشيرة الدخول لمواطني البلدين في القريب العاجل، لتواصل بذلك عجلة الشراكة الجزائرية-التركية طريقها المتواصل نحو الأعلى.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.