لعل أبرز ملامح هذا التغيير هو أشكال التواصل الاجتماعي التي ألفناها من زيارات عائلية وولائم طعام تجمع الأقارب والأصدقاء، ولا شك أن الجميع افتقدها بشكل أكبر في شهر رمضان المبارك.
لا شك أن شهر رمضان يقترن في أذهان المسلمين بموسم اللقاءات وصلة الرحم والزيارات المتبادلة بين الناس سواء كانوا من الأقارب أو الجيران أو الأصدقاء أو زملاء عمل، يلتقي فيه الناس على موائد الإفطار في جو مليء بالألفة و"النعمة" التي بتنا نشعر بها بشكل أكبر الآن.
يرى الناس في هذه التجمعات الرمضانية فرصة للتواصل القريب وتجاذب أطراف الحديث، ومزاولة أنشطة ترفيهية مشتركة لا سيما مع حضور الأطفال، ثم تأتي صلاة التراويح فيقصد الناس المسجد أو يصليها بعضهم جماعة في المنازل، ولا ننسى وقت تناول الحلوى بعد التراويح، وهو وقت يحمل متعة فريدة لا تقل عن متعة المشروبات الباردة التي لا تتوقف لإطفاء ظمأ الصائمين.
إلا أن جميع هذه التفاصيل الجميلة غائبة الآن عن موائد رمضان هذا العام، تماماً كما جرى في رمضان العام الفائت، وذلك بسبب تداعيات فيروس كورونا وما فرضه على الناس من تدابير صارمة، دفعت الحكومات العربية والإسلامية إلى فرض حظر تجول شامل أو جزئي إذ يختلف الحال من بلد إلى آخر، إلا أن النتيجة مشابهة غالباً وهي انغلاق شبه كامل في العلاقات الأسرية جعل رمضان بلا زيارات ولا موائد إفطار ولا حلوى ولا تراويح كذلك.
إذن ما البديل؟
الجواب في معظم الحالات هو "لا" يوجد بديل حقيقي لهذه التجمعات الأسرية التي بتنا نراها حلماً اليوم في ظل الحجر الرمضاني.
نعم لوسائل التواصل الاجتماعي دور بمحاولة توفير تجمعات افتراضية أسرية، عن طريق لقاءات الفيديو عبر العديد من التطبيقات. إلا أن هذه اللقاءات وإن كانت توفر الرؤية المتبادلة على أبعد تقدير فإنها لا تمنح أي شيء من مشاعر التواصل القريب ولا من متعته، بل تجعلنا في كثير من الأحيان آلة ذكية تشبه الهواتف أو الأجهزة اللوحية التي نتحدث من خلالها.
وفي هذا الصدد يقول الطبيب النفسي السوري محمد الدندل في حديث خاص مع TRT عربي: "شهر رمضان بالنسبة إلى المسلمين هو موسم اللقاءات ويرتبط عبر الذاكرة الجمعية لدى الناس بالتجمعات ووسائل الترفيه والطقوس والسهرات الرمضانية واختلاف طرقها بين كل مجتمع، وبالتالي لا يمكن الاستغناء عن هذه المظاهر بوسائل التواصل الاجتماعي".
وتابع الدندل: "نعم ربما تكون وسائل التواصل تخفيفاً لشعور الوحدة أو الانقطاع التام، إلا أنها لا يمكنها بأي حال أن ترقى إلى لعب دور البديل عن اللقاءات المباشرة في رمضان وغيره".
ولفت الدندل إلى خطورة فترات الانغلاق الطويلة وتبعاتها على الناس، فأشار بالقول: "بوصفنا أطباء نفسيين بتنا نلحظ ارتفاعاً في عدد حالات القلق والاكتئاب، وما ذلك إلا نتيجة الانعزال الاضطراري وشبه انعدام التواصل المباشر بين الناس والأهل والأصدقاء".
على صعيد آخر ربما يكون من الأنجع محاولة التلاؤم مع هذا الواقع والتعامل معه كروتين يومي جديد كما يرى البعض، لكن وإن كان هذا الرأي محقّاً ولا بد منه في ظل التدابير المفروضة بسبب الفيروس، فإنه لا يغير من حقيقة الفرق الشاسع الموجود بين الماضي والحاضر، وعِظَم ما فقدناه وبتنا نراه حلماً يبدو صعب المنال على المدى القريب.
وفي هذا الصدد يلفت الإعلامي الجزائري عبد الفتاح بوعكاز، في حديث خاص مع TRT عربي، إلى أنّ "منصات التواصل الاجتماعي ليست بديلًا بكل الأحوال، لكنها غطت بشكل كبير نقص التواصل المباشر بين العائلات، إلا أن الخشية تكمن باستمرار الحال".
وتابع بوعكاز: "ولو استمر التباعد أكثر من هذا فستفقد العائلات حرارة التواصل وحلاوته، كما سيتعود الصغار على حالة ستخلق فجوة بين الجيل القديم والجيل الجديد، لا سيما أن الأخير جيل مهيّأ أصلاً للانقطاع عن الأصول لا سيما في الغربة".
أما الخبير الأردني في المجال الرقمي كفاح عيسى فيقول في حديث خاص لـTRT عربي: "بالطبع لا يمكن لوسيلة تواصل أن تُغني عن اللقاء المباشر للأهل والأصدقاء برمضان، لكن تبقى وسائل التواصل أضعف الإيمان أو متنفّساً يرى الناس خلاله فرصة للتواصل عن بعد".
واعتبر عيسى أن "معظم الناس قبل كورونا وتدابير الحظر كان يعاني صعوبة التواصل عن بعد لا سيما في العمل، إلا أن الجائحة حققت قفزة كبيرة في تأهيل الناس بشكل أكبر لهذا النوع من التواصل ومحاولة التعاطي معه بشكل أكبر".
وحين الحديث عن هذه القضية ما قبل جائحة كورونا تجدر بنا الإشارة إلى ما وصفته الكاتبة والروائية السورية عبير النحاس في حديث خاص مع TRT عربي، بـ"الروتين القديم".
إذ لامست بدقة ما نعيشه اليوم من انغلاق عام وتواصل أسري افتراضي جاف حينما قالت: "نحن السوريين (والعرب المهجّرين منذ ما قبل كورونا) اعتدنا على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لأجل اللقاءات والتجمعات الأسرية منذ ما قبل انتشار كورونا بوقت طويل".
وتابعت بالقول: "تخيل أننا نشارك حتى في حفلات الزفاف أو مناسبات الخطوبة وما شابه "عن بعد"، إذ نشاهد تفاصيل الحفل من خلال تصويره لنا من داخل سوريا عبر الهاتف، بل إن المفارقة أن الذين يحضرون الحفل بالفعل يتعاملون معنا كأننا معهم وبينهم لوهلة ما".
وبالطبع يشير العديد من الأمثلة إلى مدى محاولة وسائل التواصل الاجتماعي لعب دور البديل عن التواصل الفيزيائي الحقيقي الذي بات صعباً أو شبه مستحيل عند الكثير من الناس.
وما كان يعانيه المُهجّرون أو المغتربون عامة قبل كورونا بات اليوم جزءاً من حياتنا اليومية وألفناه، كما باتت وسائل التواصل شيئاً لا يمكن الاستغناء عنه لمحاولة تعويض تلك الجلسات واللقاءات في ليالي الأنس الغابرة، فهل تغني وسائل التواصل عن التجمعات الأسرية بالحجر الرمضاني يا ترى؟