الاستقلال المادي.. محفز للإبداع والابتكار لدى اللاجئين والمهاجرين بألمانيا
بينما تتزايد أعداد المهاجرين واللاجئين المتوافدين على ألمانيا، الذين كانوا في نظر الجميع عالة على الدولة المستقبلة. صارت الدراسات الألمانية المتعلقة بهم تعلن أنهم أصبحوا رقماً اقتصادياً مهماً في البلاد.
منار لاجئة سورية بألمانيا (TRT Arabi)

أنعش المهاجرون واللاجئون المتوافدون على ألمانيا الحركة الاقتصادية، واختاروا الاستقلال المادي والتخلي عن إعانات الدولة، وبناء مشاريع خاصة تمكنهم من كسب مستقبل أكثر إشراقاً.

كشفت أحدث الإحصائيات الألمانية حول المهاجرين، أن واحداً من بين كل أربعة أفراد من سكان ألمانيا ينحدر من أصول مهاجرة. وأعلن مكتب الإحصاء الاتحادي خلال شهر يوليو/تموز 2020، أن عدد ذوي الأصول المهاجرة في البلاد بلغ العام الماضي 21.2 مليون فرد، أي ما يعادل 26 بالمئة من إجمالي عدد السكان.

وقد زاد عدد الأجانب من رواد الأعمال في البلاد بمقدار الثلث في السنوات الـ15 الماضية، وفقاً لدراسة نشرتها مؤسسة Bertelsmann-Stiftung. إذ يوجد اليوم ما يقرب من 800 ألف مهاجر من أصول أجنبية يعيشون في ألمانيا ويملكون أعمالهم الخاصة، ما يمثل نسبة 10٪ من المهاجرين، وخلقت هذه الشركات ما مجموعه 2.3 مليون وظيفة.

ووفقاً لدراسة أخرى نشرها بنك KfW الألماني حول الموضوع، فإن هذا الارتفاع في عدد المهاجرين المؤسسين للشركات في ألمانيا يعني أن ربع مجموع الشركات الناشئة يتم إطلاقها من قبل أشخاص من أصول أجنبية، في حين فضل الألمان الابتعاد عن الأعمال التجارية، حيث انخفض عدد رواد الأعمال الألمان بمقدار 300 ألف عمَّا كان عليه في عام 2005، وفقاً لنفس دراسة مؤسسة Bertelsmann Stiftung.

تجربة ملهمة لمهندسة لاجئة

هي اليوم صاحبة لقب "صانعة صابون كورونا"، منار الخطيب، لاجئة سورية فرت من بلدها نحو ألمانيا سنة 2015 بعدما اشتدت وطأة الحرب وضاقت بها وبأسرتها الصغيرة سبل العيش، وعلى متن قارب مطاطي بعد رحلة هروب عبرت خلالها تركيا واليونان، وصلت إلى ألمانيا واستقرت.

صبا لاجئة سورية صاحبة مطعم بألمانيا (TRT Arabi)

هي في الأصل مهندسة زراعية متخصصة في علوم التغذية، جابهت ظروف اللجوء الصعبة، ومرت برحلة لجوء خطيرة حاملة بين ذراعيها رضيعاً لا يتجاوز عمره سنة. تغلبت أيضاً على حاجز اللغة الألمانية، ونالت بعد جهد كبير مستوى C1 فيها، أملاً في أن تكون مفتاحها نحو الاندماج في الوطن الجديد، ومدخلها نحو سوق الشغل في مجال تخصصها.

تحكي منار لـTRT عربي عن طول رحلتها في البحث عن عمل، وقالت: "حاولت جاهدة الحصول على فرصة عمل في مجال تخصصي، لكن بحكم حاجز اللغة وقلة الخبرة داخل ألمانيا، قوبلت طلبات عملي بالرفض". مصاعب من بين أخرى جعلتها تخطط لمسار مختلف وبعيد عمَّا كانت حياتها تسير نحوه قبل تجربة اللجوء إلى ألمانيا.

كان مفتاح التغيير خلال جلسة شاي مع صديقة ماليزية، اكتشفت منار خلالها أن الحل يتمثل في إنشاء مقاولة خاصة بها، واهتدت بفضل فيديوهات سيدة مغربية على اليوتيوب إلى فكرة صنع الصابون، اعتماداً على معلوماتها في المجال الكيميائي.

"قمت بأبحاث كثيرة على الإنترنت واستعنت بما درسته حول العلوم الكيميائية خلال مساري الأكاديمي، وقمت بصناعة أول كمية من الصابون داخل مطبخ بيتي ثم أهديته للأصدقاء وجعلتهم أول مختبرين لمنتوجي". بعد سماع كلمات مشجعة منهم قررت إنشاء شركة خاصة من أجل البيع بشكل قانوني والخضوع لنظام الضرائب، ثم بدأت في بيع منتوجاتها عبر موقعها الإلكتروني وصفحتها على الإنستغرام.

كانت أولى المستثمرات في منتوج منار سيدة ألمانية تدير محلاً تجارياً، أعجبت بالطريقة الإبداعية التي تعرضه بها منار، واقتنت كمية منها وبدأت تبيعه في محلها، بعد ذلك توالت النجاحات وزادت شعبية المنتوج بين سكان المدينة، وتمت دعوة منار لعرض منتوجها في أسواق رأس السنة الألمانية.

صبا في مطعمها بألمانيا (TRT Arabi)

لم تتصور منار أن تجعلها هذه الفكرة واحدة من أشهر اللاجئين في الولاية حيث تقطن، إذ تهافتت عليها القنوات الإعلامية الألمانية وزارها أعضاء من حزب المستشارة أنغيلا ميركل ورئيس بلدية المنطقة حيث تقيم. تقول: "صار لي زبائن أوفياء يزداد عددهم كل يوم، وصار حلمي الرقي بالفكرة وتطويرها لتتعدى حدود ألمانيا".

تحديات الثقافة والدين لا تنال من عزيمة اللاجئين

يرى علي العبسي، مدير تحرير مجلة السوق الاقتصادية الصادرة عن غرفة التجارة والصناعة العربية الألمانية، أن "صعوبة إيجاد فرصة في سوق الشغل الألماني بالنسبة إلى المهاجر لها مسببات كثيرة من بينها حاجز اللغة، إذ يحتاج المهاجرون عموماً إلى مستوى متقدم من أجل الحصول عليها والتعامل مع مشغله وزملائه أولاً، والزبائن أيضاً".

ويضيف العبسي في تصريحاته لـTRT عربي أن "المهاجرين يعانون من مشكلة الاعتراف بالشهادات المستقدمة من بلدانهم من جهة، وتعوقهم في الكثير من الأحيان الهوية الدينية والثقافية المختلفة التي تجعل أصحاب المشاريع يخافون من عدم اندماجهم داخل فريق العمل، فيترددون في منحهم الفرصة".

وشدد المتحدث على أن "ألمانيا ليست بلد مهاجرين"، مؤكداً أن "هناك هاجساً لدى المجتمع الألماني والسياسيين من تأثير موجة الهجرة على بلدهم وثقافتهم، وهو ما ينعكس سلباً على المهاجرين في سوق الشغل خاصة العرب والمسلمين".

وعلق مدير تحرير مجلة السوق الاقتصادية على ارتفاع عدد المهاجرين المتجهين نحو تأسيس أعمال خاصة مقابل انخفاض عدد الألمان بالقول: "يعود الأمر ببساطة لكون الأعمال الحرة تحظى بتقدير كبير في البلدان التي أتى منها هؤلاء المهاجرون، لكن ذلك لا ينطبق على المجتمع الألماني، الذي لا يوليها أهمية كبرى". مشدداً على أن "العمل الخاص يوفر للمهاجرين استقلالية أكثر، ويبعدهم عن الاحتكاك المباشر مع رب عمل أجنبي".

منار مهندسة سورية لاجئة في ألمانيا افتتحت مشروعا للصابون بلمستها الخاصة (TRT Arabi)

وعن انعكاسات ذلك على الاقتصاد الألماني، اعتبر المتحدث أن "مشاريع المهاجرين سدت نقصاً كبيراً في سوق العمل، سواء كموظفين أو أصحاب مشاريع خاصة". معتبراً أن الأمر "نتاج توافد اليد العاملة المهاجرة منذ القديم، وساعدت على ذلك موجة الهجرة منذ سنة 2015"، مؤكداً أنها "ساهمت في انتعاش الكثير من القطاعات خاصة منها قطاع الخدمات وأيضاً المطاعم".

قصة محزنة قادت لاجئة سورية نحو حياة مستقلة

توفي زوجها بعد هجوم مليشيات على منزلها عام 2015 وقتله رمياً بالرصاص، فصار بقاؤها في سوريا برفقة ابنتيها مستحيلاً. واصلت التنقل بين منازل الأصحاب والعائلة باحثة عن مفر من الذكريات المؤلمة، لتقرر بعدها البحث عن سبيل لمغادرة بلد أنهكته الحرب.

تحكي صبا، سيدة سورية أرملة وأم لطفلتين، قصة لجوئها لـTRT عربي، قائلة: "ساعدني شقيقي المقيم في الولايات المتحدة على ربط التواصل مع قريبة تقطن بتركيا، استقبلتني على أمل مساعدتي في الحصول على تأشيرة تمكنني وطفلتَي من اللحاق بأخي". لكن الأقدار شاءت أن "يحدث ما يغير الخطة كاملة قبل موعدنا مع السفارة بيومين، إذ حصل التفجير الإرهابي في فرنسا الذي تورط فيه شخص سوري فمنعت الولايات المتحدة دخول السوريين إلى أراضيها".

"ساعدتني قريبتي في التواصل مع مهرب لدخول أوروبا"، وهنا بدأت حياة جديدة انطلقت خلال رحلة على متن قارب تجاوزت ست ساعات، لم يرف لها خلالها جفن من خوفها على ابنتيها من مخاطر الغرق. "تنفسنا الصعداء بعد وصول القارب تحت رعاية الأمم المتحدة والصليب الأحمر إلى البر، وهو ما ساعدنا على التخلص من تبعات المهربين".

هي خريجة معهد موسيقي ومربية سابقة برياض أطفال، ساعدها إتقانها للغة الإنجليزية في تواصل أفضل مع المحيط الجديد بألمانيا، درست اللغة وبدأت في محاولاتها لتحقيق الاندماج في البلد الجديد، إذ قالت: "أكيد عائق اللغة كان أكبر تحدٍ، ولكنني صممت على تعلمها، فعلى الرغم من أن طفلتي كانت صغيرة، كنت آخذها معي إلى دروس اللغة".

بدأت التفكير في مستقبل أكثر أماناً واستقلالاً، وبعد أن لاحظت غياب المطاعم العربية عن المنطقة حيث استقرت، فكرت في مشروع خاص تقدم من خلاله أكلاً مشرقياً. وبدعم معنوي من الدولة والأصدقاء الجدد بألمانيا قررت افتتاح مطعم للأكل السوري معتمدة على نفسها في الطبخ والتسيير، مؤكدة "أحبَّ زبائني الألمان الطعام السوري، وسارت الأمور بشكل جيد". موضحة أنها فكرة طبقتها "بسبب رغبتي في الخروج من العزلة، وبسبب حبي للاستقلال عن الدولة وتحقيق مستقبل أفضل لي ولبناتي".

TRT عربي