في تراجع عن الخطوة التي أعلنت عنها سابقاً هذا الشهر أعلنت السلطات الألمانية نيتها إعادة النظر في إمكانية حصول البروفيسور جدعون غرايف على "وسام الاستحقاق" لأبحاثه حول الهولوكوست. ذلك بعد أن أثار خبر ترشيحه غضباً واسعاً لآرائه المنكرة لجرائم الصرب بحرب البوسنة خلال تسعينيات القرن الماضي.
وسبق أن حذّرت خارجية البوسنة والهرسك من تكريم ألمانيا الأكاديمي المثير للجدل، لاتّهامه بإنكار مذبحة سريبرينيتسا التي راح ضحيتها الآلاف من مسلمي البوسنة، متحججاً بأن إثباته لها قد يساهم في زعزعة استقرار البلقان.
واعتبر الرافضون لتكريم جدعون غرايف أنه يجسد مثالاً صارخاً للنفاق الأخلاقي الخارج عن النطاق الأكاديمي، إذ يكيل التاريخ بمكيالات سياسية وإثنية عنصرية بإنكاره إحدى أبشع بقع الدم التي تلطخ تاريخ البشرية.
غرايف وكيل التاريخ بمكيالين!
سنة 2019 وبمناسبة الذكرى الـ25 لمذبحة سريبرينيتسا جرى تنصيب الأكاديمي جدعون غرايف على رأس لجنة تقصي حقائق تاريخية في ما حدث وقتها. قرار التنصيب أتى من قبل رئيس جمهورية صرب البوسنة ميلوراد دوديك أحد أكبر المشككين في المذبحة والمعجبين بمنفذها الجنرال راتكو ملاديتش.
وعلى هذا الأساس أتى تقرير غرايف محابياً لمعتقدات الرئيس دوديك، إذ قلَّل من ضحايا المذبحة قائلاً إنهم ما بين 2000 و3000 من البوشناق والصرب، واضعاً الجلاد والضحية في نفس الكفة. في حين تورد التقارير الدولية أن المذبحة استهدفت مسلمي البوسنة العزل على وجه التحديد قاتلة منهم بدم بارد عدداً قارب الـ8500 ضحية في "أبشع جريمة إبادة جماعية منذ الحرب العالمية الثانية".
بل خلص غرايف إلى أنه "لم تكن أي مذبحة"، قائلاً إن "التقرير أساساً أتى بهدف تحقيق المصالحة. فالحقائق تأتي في خدمة السلام بين كل أطراف القضية". مضيفاً في تبرير إنكاره أن "التقرير أتى بعد خبرة عظيمة عاينَّا بها الحقائق على الأرض، ولم يجرِ الضغط علينا من أي جهة سواء كانت فردية أو حكومية، كما أقمنا كل أبحاثنا على منهجية علمية".
أثار تقرير غرايف موجة سخط كبيرة آخرها ما صرحت به وزيرة الخارجية البوسنية إثر إعلان ألمانيا نيتها تكريم الأكاديمي الإسرائيلي بـ"وسام الاستحقاق". وقالت وزيرة خارجية البوسنة والهرسك بيسيرا توركوفيتش لصحيفة "هآرتس" إن من الأهمية بمكان فهم سبب خطورة إنكار الإبادة الجماعية في سريبرينيتسا وعواقبه غير المتوقعة بعد أن "جرى البتّ فيها وفق أحكام المحاكم الدولية، وكذلك محاكم البوسنة والهرسك".
وأكدت أنّ "إنكار ما جرى تأسيسه قضائياً وقانونياً لا يؤدّي فقط إلى الفوضى وعدم اليقين القانوني، بل إلى زعزعة استقرار منطقة غرب البلقان بأكملها. إنها مقدمة لصراعات وانقسامات وجرائم حرب جديدة"، إذ بات إنكار الإبادة الجماعية "أداة مهمة لبعض القوى الانفصالية في البوسنة والهرسك، والتي تثير الانقسامات والصراعات بهدف زعزعة استقرار المنطقة".
وقبل ذلك كان رئيس المجلس اليهودي العالمي والمناضل من أجل العدالة لضحايا الإبادة الجماعية في سريبرينيتسا مناحم روزنسافت أدان تقرير المؤرخ الإسرائيلي واصفاً إياه بـ"القادم من مبادرة لزعيم انفصالي منكر للمذبحة وناتج عن باحث إسرائيلي مشهور بأعماله المبالغ في محاباتها للصرب". وأضاف روزنسافت قائلاً: "أنا باعتباري ابناً لأبوين عانى كلاهما مآسي أوشفيتز، أحس بالاستفزاز من الوقاحة التي أتى بها التقرير الذي يجب أن يرمى إلى مزبلة التاريخ أو أن يكون دليلاً على الكيفية التي تنحط بها أخلاقيات الفرد".
إنكار سربرنيتسا جريمة!
هذا ويسود إنكار الإبادة الجماعية في سريبرينيتسا في أوساط القوميين من صرب البوسنة، بل ويعد قاعدة التوجهات الانفصالية لسياسات رئيسهم ميلوراد دوديك. بالمقابل يقود الشعب البوسني ومعه عدد من شعوب البلقان الأخرى نضالاً من أجل تحقيق العدالة في الجريمة البشعة.
وفي شهر يوليو/تموز الماضي أقر الممثل السامي للبوسنة والهرسك فالنتين إنزكو تغييرات على تشريعات البلاد يحظر بموجبها إنكار الإبادة الجماعية التي حدثت عام 1995، ويعاقب لذلك منكرها بالسجن قد يصل إلى 5 سنوات. كما يواجه أي شخص يثبت تمجيده مجرمي الحرب نفس العقوبة.
قبلها في شهر يونيو/حزيران الماضي صدَّق برلمان جمهورية الجبل الأسود هو الآخر على مشروع قرار يقضي بالاعتراف بمذبحة سربرنيتسا ويجرم إنكارها. كما عزل ذات البرلمان وزير العدل وحقوق الأقليات المونتينيغري، فلاديمير ليبوسافيتش، من منصبه، بسبب تصريحاته المثيرة بخصوص رفضه المجزرة التي نفذتها القوات الصربية.