بدا ذلك جليّاً من خلال التغطية الإعلامية الباهتة للزيارة، وتأكيد أنها ما كانت لتتمّ لولا تضحيات قاسم سليماني، وما تسمّيه "محور المقاومة".
وهو ما دفع البعض إلى الاعتقاد أن إيران تخشى على نفوذها في العراق بعد الزيارة، فهل حقّاً هناك مخاوف إيرانية في هذا الصدد؟ وهل للقلق الإيراني ما يبرّره؟
أسباب القلق الإيراني
قبل أيام قليلة من الزيارة شهد العراق تكثيف المليشيات المسلحة المدعومة إيرانياً من هجماتها ضد القوات الأمريكية في العراق. وعلى الرغم من أن الهدف الواضح من الهجمات هو الضغط على الإدارة الأمريكية الجديدة بهدف العودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات المفروضة على طهران أو تخفيفها إلى الحد الأدنى، رأى بعضهم أن الهدف منها ثني البابا عن زيارته ودفعه إلى إلغائها أو تأجيلها في الحد الأدنى. فما الأسباب التي تدفع إلى هذا الاعتقاد؟
أولاً: تعزيز مكانة الكاظمي
لا يخفى على أحد أن إيران اضطُرّت مُكرَهة في مايو/أيار من العام الماضي إلى القبول بتسلُّم مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء، وهو المعروف بعلاقته الوثيقة مع الولايات المتحدة وحلفائها الخليجيين، بعد أن وَجَّهت إليه أطراف مقربة منها اتهامات تتعلق بالضلوع في مقتل قاسم سليماني والمهندس حين كان رئيساً للاستخبارات.
طوال الشهور الماضية حاول الكاظمي استعادة الدولة من قبضة المليشيات المسلحة، وتعزيز مفهوم الدولة، وتأكيد سلطتها، وضبط السلاح المنفلت، وتحجيم دور المليشيات. صحيح أنه اضطُرّ في عديد من الأحيان إلى التراجع أمام هذه المليشيات، إلا أنه لا يمكن التشكيك بنيّته في هذا المجال.
زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية للعراق، إن كان قد خُطّط لها قبل وصول رئيس الوزراء الحالي للسلطة، فإن إيران ترى أن الإصرار على القيام بها في الوقت الحالي رغم انتشار وباء كوفيد-19 والتحديات الأمنية، يصبّ في مصلحة الكاظمي، ويمنحه مزيداً من القوة والدعم الدولي والداخلي لمواصلة مساعيه لإضعاف نفوذها في العراق، وتحييد هذا البلد عن صراعها مع أمريكا.
تنظر إيران إلى الكاظمي على أنه رئيس وزراء مؤقَّت، وتخشى من أن تسهم هذه الزيارة في احتفاظه بالمنصب بعد الانتخابات النيابية المزمعة في أكتوبر/تشرين الأول القادم.
ثانيا: إضعاف مرجعية قم
على الرغم من أن لقاء بابا الفاتيكان مع المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني في أثناء زيارته العراق ليس أمراً مستغرَباً بعد لقاءاته المتكررة بزعامات دينية سُنّية خلال السنوات الأخيرة، فإنه من المؤكد أن هذا اللقاء كان أحد أسباب عدم الارتياح الإيراني للزيارة.
وبدا هذا الاستياء من خلال وصف الإعلام الإيراني السيستاني بأنه أحد مراجع الشيعة أو مرجع شيعة العراق، رغم أنه يحظى بأكبر عدد من المقلدين الشيعة في مختلف الدول بما فيها إيران.
من المعروف أن الحوزة العلمية في النجف تسلك نهجاً مختلفاً عن حوزة قم، ورغم أن السيستاني لم يتخذ مواقف علنية واضحة ضد التدخل الإيراني في العراق أو النظام الإيراني بشكل عامّ، فإن نهجه يختلف إلى حدّ بعيد مع الجمهورية الإسلامية.
فهو لا يؤمن بنظرية ولاية الفقيه، بل يؤكد ولاية الأمة، ويعارض الإسلام السياسي ويرى ضرورة قيام الدولة على أسس مدنية ديمقراطية، لا على أسس دينية كما هو الحال في إيران. كما انحاز إلى جانب ثورة أكتوبر/تشرين الأول 2019 التي أفضت إلى استقالة عادل عبد المهدي وتشكيل الحكومة الحالية.
ويأتي في هذا الإطار رفضه لقاء الشخصيات الإيرانية المتشددة، ويُعتقد أنه رفض مؤخراً لقاء إبراهيم رئيسي رئيس السلطة القضائية وأحد المرشحين الأوفر حظّاً لخلافة المرشد الإيراني، في أثناء زيارة للعراق، بعد أن كان قد رفض سابقاً لقاء محمود هاشمي شاهرودي، وقاسم سليماني، ومحمود أحمدي نجاد.
تَعتبر إيران هذا النهج خطراً عليها وتهديداً لمصالحها، لذلك نشهد بين فترة وأخرى انتقادات لهذا المنهج كان آخرها قبل أشهُر قليلة، حين وجّه ممثل خامنئي في صحيفة كيهان انتقادات لاذعة إلى السيستاني بسبب مطالبته الأمم المتحدة بالإشراف على الانتخابات المزمعة.
يعود هذا الاستياء إلى عدة عوامل، منها اعتقاد إيران أن اللقاء يعني اعترافاً ضمنياً من البابا بزعامة السيستاني للطائفة الشيعية بدلاً من المرشد الإيراني -الذي لا يكتفي الإعلام الإيراني بوصفه بزعيم الشيعة، بل يصفه بـ"ولي أمر المسلمين في العالم"- وكذلك اعترافاً بتفوُّق مرجعية النجف على مرجعية قم.
مصدر القلق الحقيقي لإيران يكمن في أن تسفر الزيارة عن تعزيز النهج الذي تسلكه حوزة النجف بين شيعة المنطقة، ما يعني بالضرورة إضعافاً لنفوذها.
ثالثاً: تطبيع العلاقات بين العراق وإسرائيل
تخشى إيران من أن زيارة البابا لمدينة أور مسقط رأس النبي إبراهيم، وتأكيده مفهوم الأُخُوّة والتعايش بين أتباع الأديان الإبراهيمية الثلاثة، يعني ضمناً الدعوة إلى التطبيع مع إسرائيل، وترى أن الهدف غير المعلن للزيارة تشجيع العراق على الانضمام إلى قافلة التطبيع.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الدعوات المطالبة بإقامة علاقات دبلوماسية بين العراق وإسرائيل بذريعة التخلص من الهيمنة الإيرانية، وكذلك الزيارات المزعومة لمسؤولين عراقيين وأعضاء برلمانيين إلى إسرائيل، إضافة إلى تصريحات نائب رئيس الوزراء العراقي السابق بهاء الأعرجي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بأن كل الظروف مهيأة لإقامة السلام بين بغداد وتل أبيب وأن "من الممكن أن يصدر قرار التطبيع من النجف لا من بغداد"، ناهيك بالرسالة الرمزية التي أرسلها البابا إلى الرئيس الإسرائيلي في أثناء مرور طائرته فوق الأجواء الفلسطينية-الإسرائيلية، سيتضح أن للمخاوف الإيرانية ما يبررها.
لا شكّ أن إقامة علاقات دبلوماسية بين العراق وإسرائيل -في حال حدوثها، وهي مستبعدة حالياً- تشكّل ضربة كبيرة لإيران ومشروعها في المنطقة. ورغم أن حديث السيستاني في اللقاء عن "معاناةالشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة" لا يُفهَم منه رفض الدعوة المزعومة من البابا، بل يمكن اعتباره قَبولاً بحلّ الدولتَين، فإن الإعلام الإيراني فسّره بأنه جاء تعبيراً عن رفض المرجعية لهذه الدعوة.
هل تضعف إيران في العراق؟
في السنتين الأخيرتين فقدت إيران شريحة كبيرة من قاعدتها الشيعية في العراق بعد فشل الحكومات المقربة منها في أدائها وارتهان قرارها إلى الخارج وغرق الأحزاب والجماعات المحسوبة عليها بالفساد والمحسوبيات، لكنها ما زالت تحتفظ بعشرات المليشيات المسلحة التي تأتمر بأمرها، فضلاً عن دعم عدد كبير من الكتل السياسية.
صحيح أنه باتت قاعدة واسعة ترفض التدخُّل الإيراني في شؤون العراق الداخلية، وقد تُسهِم زيارة البابا في توسيع هذه القاعدة، إلا أن الحديث عن إضعاف النفوذ الإيراني في العراق لا معنى له ما دام السلاح بيد المليشيات.
الكرة الآن في ملعب الكاظمي الذي كسب -نتيجة الزيارة- مزيداً من الدعم الشعبي، فضلاً عن الدعم الإقليمي والدوليّ للسير قُدُماً في مشروعه لاستعادة الدولة المختطَفة من قبل المليشيات، وستتّجه إليه الأنظار في المرحلة القادمة لترى إن كان سينجح في أداء هذه المهمة الصعبة أم لا، لكن لا ينبغي التفاؤل كثيراً بالنتائج في ظلّ عدم توافر إرادة دولية جدية لإنهاء المليشيات.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.