تتكون من سبعة محاور رئيسية: إصلاح القطاع الأمني والعسكري، وتحقيق العدالة، والاقتصاد، وتفكيك نظام الإنقاذ، ومحاربة الفساد، وتوحيد خطاب السياسة الخارجية، وتكوين المجلس التشريعي.
ففي مؤتمره الصحفي الذي أطلق فيه مبادرته وصف رئيس الوزراء حمدوك الأزمة التي يعيشها السودان بالمخيفة في تداعياتها وما يصاحبها، وقال إن الشراكة السياسية في السودان بين المدنيين والعسكريين لا تسير في خط مستقيم وتواجه تحديات كبيرة. مضيفاً أن البلاد تواجه أزمة سياسية بامتياز من الدرجة الأولى و"ما لم ننجح في حل هذه الأزمة فإن كل الملفات ستظل تراوح مكانها"، مشيراً إلى أن حكومته تتعامل بكل جدية وصرامة بمعالجة الانتقال السياسي وحمايته.
مضيفاً أن أسس التسوية الشاملة تشمل توحيد الكتلة الانتقالية، وتحقيق أكبر إجماع ممكن داخلها حول مهام الانتقال، والشروع مباشرة وعبر جدول زمني متفق عليه في عملية الوصول لجيش واحد مهني وقومي بعقيدة عسكرية جديدة عبر عملية للإصلاح الشامل، وبما يعبر عن تنوع السودان الفريد، وتوحيد مراكز القرار داخل الدولة وعملها وفق رؤية مشتركة.
من المؤكد أن مبادرة رئيس الوزراء السوداني جاءت في وقت تمر فيه البلاد بأزمة سياسية بالغة التعقيد لم تشهدها البلاد من قبل، هذه الأزمة السياسية لها تداعيات أمنية خطيرة وآثار اقتصادية تنذر بمستقبل غير مبشر، ليس لمسيرة الانتقال الديمقراطي وإنما على مستقبل وجود كيان السودان كدولة.
شهد السودان منذ استقلاله في 1956 دائرة مغلقة: حكومات ديمقراطية منتخبة تطيح بها حكومات انقلابية عسكرية تقتلعها ثورات شعبية وهكذا. فكانت ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964 ضد نظام عبود، ثم انتفاضة أبريل/نيسان 1984 ضد الرئيس نميري، وأخيراً ديسمبر/كانون الأول 2018 التي أطاحت بالرئيس البشير. وبعد كل ثورة وانتفاضة يكرر السودانيون نفس أخطاء الماضي، فيحتدم الصراع بين الكيانات اليسارية والمجموعات الإسلامية، ويبدأ الصراع فرض الأجندات بمختلف الوسائل، مما يؤدي إلى ضياع الثورة وعزوف المواطنين عن دعم حكومتها الديمقراطية. كان من المتوقع أن يكون اختلاف بعد التغيير الذي حدث مؤخراً، ولكن الجديد في الأمر أن القوى السياسية التي أحدثت التغيير لديها ارتباطات واضحة بالدول الخارجية، وهي لا تجد حرجاً في التعبير عن تبنيها الأجندة الخارجية.
نظام الحكم الانتقالي القائم اليوم في السودان يرتكز على وثيقة دستورية جرى التوقيع عليها ما بين المكون المدني الذي مثَّله طيف من التحالف اليساري والليبرالي وبعض الأحزاب الطائفية تحت اسم "قوى الحرية والتغيير" مع المكون العسكري الذي كان عماده الجيش السوداني النظامي و"قوات الدعم السريع".
أقصت "قوى الحرية والتغيير" الكثير من القوى الوطنية ذات الثقل في الساحة السودانية، هذا فضلاً عن أن الوثيقة الدستورية حظرت "حزب المؤتمر الوطني" الذي كان حاكماً من العمل السياسي، كما اتخذت الحكومة الانتقالية العديد من الإجراءات للتضييق على المجموعات ذات التوجه الإسلامي.
برز اسم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في آخر أيام عهد الرئيس البشير، إذ جرى الإعلان عن ترشيحه لمنصب وزير المالية الذي رفضه في آخر لحظة. فالرجل خبير اقتصادي أممي تنقل بين وكالات الأمم المتحدة لما يقارب ربع قرن، بدأ حياته موظفاً في السودان ثم غادره إلى الخارج ولم يعد له إلا رئيساً للوزراء، ولقد عول الشعب السوداني كثيراً على خبرته في المجال الاقتصادي كذلك فإن وجوده في المنظمة الأممية جعل له الكثير من العلاقات في المجال الدبلوماسي مما يساعد السودان للخروج من عزلته والانعتاق من ربق العقوبات الاقتصادية الأمريكية.
لذلك حظي رئيس الوزراء بتأييد شعبي منقطع النظير قبل أن تطأ قدماه أرض مطار الخرطوم، كذلك فإن حكومته مكونة مما أطلق عليه "كفاءات" وصل معظمها من خارج البلاد وتحمل جنسيات أجنبية، فقد علقت عليها الآمال العراض للانتقال بالسودان عبر مسار سياسي إلى فسحة الدولة المدنية الديمقراطية وتحقيق دولة الرفاه الاقتصادي.
كان واضحاً عقب التغيير الذي حدث في ديسمبر/كانون الأول أن أزمة سياسية كبيرة في السودان تتطلب قائداً ذا شخصية كاريزمية تقود وتدفع كل مكونات الشعب السوداني المختلفة إلى مشروع وطني يتفق عليه الجميع بابتدار حوار شامل ومصالحة تفضي إلى وفاق تام بالبلا لكن الحاضنة السياسية من قوى "الحرية والتغيير" اختارت العمل بالأفكار القديمة للأحزاب اليسارية وفتحت المجال لحزب البعث السوداني لتطبيق تجربة حزب البعث العربي بالعراق وسوريا. كما تشظت الحاضنة السياسية نفسها وضعفت بسبب تنازعها حول اقتسام كعكة السلطة ومغانم المناصب، ولم تنجح إلا بتفكيك المؤسسات الحكومية والملكية الخاصة الناجحة، مما أدى إلى انهيار شامل بجميع القطاعات، بخاصة في قطاعَي التعليم والصحة.
لم يكن يتوقع أكثر المتشائمين أن يكون الأداء الاقتصادي للحكومة الانتقالية بهذا السوء، فقد بلغ التضخم أكثر من 400% وأصبح السودان الثاني بعد فنزويلا عالمياً، واضعين بالاعتبار أن العامل الاقتصادي كان الحافز الأساسي لتحريك الشارع ضد نظام البشير. فبدلاً من التوجه نحو الداخل ومعالجة اختلالات الاقتصاد السوداني نتيجة العقوبات الأمريكية، ومحاربة الفساد وحسن إدارة الموارد المتاحة وتشجيع عجلة الإنتاج، عولت حكومة حمدوك على الدعم المتوقع من المؤسسات المالية الدولية.
عقد الكثير من المؤتمرات الدولية لدعم السودان آخرها كان في باريس، كما وجدت وعود بإعفاء ديون السودان بعد الوصول إلى القرار نهاية هذا الشهر بعد التأكد أن السودان نفذ بالإصلاحات المطلوبة ومنها رفع الدعم الكامل عن السلع والخدمات. مقابل تسديد المتأخرات وتقديم القروض وبداية إجراءات الإعفاء التام عن الدين الخارجي وهي عملية تستغرق عدة سنوات.
التزام حكومة الفترة الانتقالية الحرفي وصفة الصندوق الدولي جعلها تتخذ سياسات اقتصادية متوحشة، بخاصة بمواجهة الطبقة الفقيرة ومحدودي الدخل، فرُفع الدعم عن السلع الأساسية بما في ذلك الوقود والخبز، مع تدهور مريع للجنيه السوداني أمام الدولار، إذ حُرِّر سعر صرف الجنيه وعوِّم من دون اتخاذ الاحتياطات اللازمة التي منها وجود احتياطي كافٍ من العملة الصعبة لدى البنك المركزي. هذه السياسات هيجت الشارع مرة أخرى وانطلقت الآن حملة "أختونا" لسحب البساط من الحكومة الانتقالية بجمع توقيعات عبر وسائل التواصل الاجتماعي والاتصال المباشر بالأحياء والأسواق، كما دُعي لمسيرة كبرى بـ30 من يونيو/حزيران الجاري.
يفتخر رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بما يطلق عليه دوماً "النموذج السوداني" باعتبار أن الشراكة بين المكون المدني والعسكري تجربة فريدة يمكن أن تحتذى، بيد أنها وفي ظل تراخي الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية وتمزقها "أدت إلى سد المكون العسكري لهذا الفراغ والضعف وتجاوز الدور الذي نصت عليه الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية. وأصبح للعسكر اليد الطولى بكثير من المهام التنفيذية، كما أسهم المكون العسكري بفاعلية في توقيع اتفاقيات السلام مع فصائل مسلحة حضر بعضها بمقاتليه إلى العاصمة الخرطوم في إطار الترتيبات الأمنية.
فوجود عدد من الجيوش في العاصمة أفزع المواطنين، كما بدأت هذه الجيوش تتمترس وتمارس أنشطة تمثل خطراً ومضايقة للمواطنين، في ظل غياب تام للشرطة وجهاز الأمن والمخابرات الوطني الذي جرى تحجيم دوره واقتصاره على جمع المعلومات.
تعتبر المؤسسات التشريعية من مجالس وبرلمانات والأجهزة القضائية والعدلية قوام النظام الديمقراطي ومرتكزه، وهي التأمين الفعلي للمسار الديمقراطي، وقد شهدت الفترة الانتقالية في السودان فوضى في التشريع، كما جرت خلخلة الجهاز القضائي من خلال تمكين لجان الناشطين من عزل القضاة وفصلهم، واختلطت اختصاصات الأجهزة العدلية فيما بينها، فالنيابة أصبحت هي الحكم والخصم، كما لم تشكَّل المحكمة الدستورية بعد.
وأصبحت لجنة "تفكيك نظام 30 يونيو/حزيران" بمثابة حكومة موازية تنفذ مهام الشرطة والنيابة والقضاء والجهاز التنفيذي وخلافه، ولديها صلاحيات لمصادرة الأموال والأملاك الخاصة، ولديها سلطة اعتقال وحجز من ترى أنه يهدد النظام القائم، وفشلوا في تعيين المجلس التشريعي غير المنتخب الذي اتُّفق على تكوينه وفقاً للوثيقة الدستورية، لخلافات بين الشركاء واعتقاد البعض أنه سيسلب الحكومة بعض التفويض والصلاحيات المطلقة. ولعل دعوة رئيس الوزراء في مبادرته لتكوين المجلس التشريعي خلال شهرين لن تجدي فتيلاً، بخاصة أن مهام المجلس نفذها الجهاز التنفيذي المدني بالاشتراك مع المكون العسكري بما في ذلك إلغاء كل القوانين ذات المرجعية الإسلامية.
إن ما يحدث في السودان الآن هو حالة تشظٍّ بين القوى الحاكمة، وهو صراع بين مختلف مكونات قوى الحرية والتغيير من جانب والمكون العسكري من جانب آخر كما وصفه رئيس الوزراء للإبقاء على الوضع الحالي وتمديد الفترة الانتقالية إلى أطول أجل ممكن، فلا يوجد حديث عن إجراء انتخابات أو تكوين المحكمة الدستورية، كما تجاوزت الحكومة الانتقالية منذ اليوم الأول مهام الحكومات الانتقالية في ترتيب الانتقال الديمقراطي وتسهيله وتمارس مهام حكومة منتخبة كاملة الدسم.
أضاع رئيس الوزراء حمدوك فرصة ذهبية ولم يستغل الإجماع الشعبي الذي حظي به قبل نحو عامين، وهو الآن عليه تسليم البلاد لحكومة تصريف أعمال من تكنوقراط، تقف التدهور وتحفظ البلاد من المصير المظلم الذي يهوي نحوه السودان، توطئة لإجراء انتخابات حرة في مدة أقصاها عام.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.