كانت بريطانيا صاحبة الكلمة العليا في منطقة الخليج، لا سيما منذ عشرينيات القرن التاسع عشر حتى عام1971. وحتى بعد أن حصلت دول الخليج العربي على استقلالها عام 1971، واصلت بريطانيا دورها كفاعل سياسي واقتصادي وثقافي ذي نفوذ في المنطقة.
وخير دليل على ذلك هو النمو الأخير في علاقات التجارة الثنائية بين بريطانيا ودول الخليج. وفي حين كان إجمالي حجم التجارة بين المملكة المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي 13.2 مليار دولار عام 2005، شهد ارتفاعاً ضخماً عام 2010 ووصل إلى 19.1 مليار دولار، و 44.5 مليار دولار عام 2016. فضلاً عن أن بريطانيا أيضاً هي وجهة جاذبة لأموال الاستثمار الأجنبي المباشر من الخليج.
أما التعاون السياسي فهو قوة محركة أخرى للعلاقة بين المملكة المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي. ومع ذلك، تذهب تلك العلاقات إلى ما هو أبعد من صفقات الدفاع والاستثمار. إذ تخرجت أجيال من أبناء العائلات الملكية لدول الخليج من أكاديمية ساندهيرست العسكرية، بما في ذلك الملك حمد عاهل البحرين، والشيخ تميم أمير قطر، والسلطان قابوس سلطان عمان.
بالإضافة إلى ملوك سابقين آخرين مثل الشيخ سعد أمير الكويت، والشيخ حمد أمير قطر. والملك حسين عاهل الأردن سابقاً هو أيضاً أحد خريجي ساند هيرست البارزين.
صرحت القوات المسلحة البريطانية عن لتدشين ثلاث قواعد عسكرية في منطقة الخليج، في البحرين وعمان والإمارات العربية المتحدة.
وليس التعليم الذي تلقَّاه ملوك الخليج في هذه الأكاديمية مضيعة للوقت. ففي الفصل الثالث من دورة تدريب الضباط بمؤسسة ساند هيرست تُلقَّن أساليب مكافحة التمرد وإدارة الاضطرابات العامة. لكننا شهدنا في الآونة الأخيرة بُعداً جديداً لتلك العلاقة المنطوية على التعاون العسكري. ويتجلى فقط في المبيعات المستمرة للأسلحة والمنتجات العسكرية وإنشاء المملكة المتحدة لقواعد عسكرية دائمة في بلدان الخليج.
برزت العلامات الأولية لتلك الإستراتيجية عام 2014 عندما صرحت القوات المسلحة البريطانية بخططها لتدشين ثلاث قواعد عسكرية في منطقة الخليج، مشيرة إلى أن تلك الدول قد تكون البحرين وعمان والإمارات العربية المتحدة. وفي السنوات التالية، تحولت تلك الفكرة إلى حقيقة واقعة، إذ أدخلت القيادة البريطانية خطتها حيز التنفيذ مع شركائها من دول الخليج.
وفي أبريل/نيسان 2018، حضر آندرو دوق يورك حفل افتتاح مرفق الدعم البحري البريطاني في البحرين. وتلا هذا الافتتاح اهتمامٌ كبير بمنطقة الخليج. وأفادت التقارير أن القاعدة هي أول منشأة للبحرية الملكية في الخارج منذ ما يقرب من نصف قرن.
دفع التعاون المتأصل مع جميع دول الخليج لندن إلى إدراك أنَّ مثل تلك العداوات مع شركاء الخليج قد تضر بالمصالح الإستراتيجية طويلة المدى لبريطانيا.
في الوقت الذي تزعم فيه الحكومة البريطانية أن هذا المرفق يهدف إلى دعم القدرة التشغيلية لجيشي البحرين وبريطانيا، تشير التطورات الجيوسياسية إلى أبعاد أكثر واقعية تتعلق بسبب اختيار بريطانيا لهذه القاعدة العسكرية في قلب تلك المنطقة المتوترة.
وبالإضافة إلى مرفق البحرين، أعلنت بريطانيا، في 5 نوفمبر/تشرين الثاني، أنها ستفتح قاعدة تدريب عسكرية على أراضي عُمان في مارس/أيار 2019. وثمة تحليلات تشير إلى أن تلك القاعدة ستضم عدداً كبيراً من القوات والمعدات العسكرية البريطانية لتدريب القوات المسلحة العمانية وحمايتها.
المخاوف الناجمة عن البريكست
يأتي قرار الحكومة البريطانية بإنشاء قواعد عسكرية في البحرين وعمان في وقت تعاني فيه منطقة الخليج الغنية بالنفط من تزايد الخلافات وعدم الاستقرار. وضعت بريطانيا في اعتبارها خمسة عوامل رئيسة، حاليَّة وتاريخية، جيوسياسية قبل الإقدام على تلك الخطوات.
يتمثل العامل الأول في خروجها من الاتحاد الأوروبي. لقد أجبرهم الشعور بعدم اليقين بين النخبة البريطانية الحاكمة على الاستعداد لصدمة ما بعد الخروج التي قد تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد البريطاني.
وحتى تتصدى بنجاح لركود الاقتصاد الذي تخشاه الحكومة في المرحلة التالية للخروج، عكفت الإدارة البريطانية على البحث عن أسواق جديدة تمكنها من المجازفة بحجم تجارتها الحالي واستبدال دول أخرى بدول الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن مستوى الاستثمار الأجنبي المباشر الخاص بها.
ومن بين أفضل الخيارات في هذا الصدد منطقة الخليج الغنية بالنفط. مثل تلك التداخلات العسكرية من شأنها أن تزيد الثقة وكذلك إصرار القيادة الخليجية، المنهمكة بالفعل في البحث عن حلفاء دوليين أقوياء، على التعاون مع بريطانيا.
التأثير الأميركي الهائل والتنافسات الداخلية
يتمثل العامل الثاني في مواجهة الوجود والنفوذ الأميركيَيْن المتزايدين في منطقة الخليج. مع أن بريطانيا كانت كالعادة القوة الغربية الرئيسة صاحبة النفوذ على الخليج، في حقبة ما بعد الحرب الباردة، فإن الوجود الأميركي في المنطقة طغى عليها. وفي الآونة الأخيرة، وطَّدت إدارة ترمب العلاقات بين الولايات المتحدة والدول المهيمنة في المنطقة مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة.
وتسعى بريطانيا، ضمن تحرك لاستعادة مكانتها كطرف إقليمي، للاستفادة من التشارك العسكري. وثمة عامل آخر حفَّز استعادة بريطانيا لوضعها التاريخي في المنطقة، ألا وهو عدم الثقة بين دول الخليج. خلقت أزمة قطر بيئة سياسية جديدة بين الجهات الإقليمية التي عانت بشكل متزايد من انعدام الثقة.
مكن اعتبار شراكة أنقرة الإستراتيجية المتعمقة مع الدوحة علامةً على الفجوات التي تعاني منها السلطة في الجغرافيا السياسية للخليج.
وفي حين استهدفت الرياض وأبو ظبي والبحرين القيادة القطرية بشكل صريح، ظلت عمان والكويت على الحياد. دفع التعاون المتأصل مع جميع دول الخليج تقريباً لندن إلى إدراك أنَّ مثل تلك العداوات مع شركاء الخليج قد تضر أيضاً بالمصالح الإستراتيجية طويلة المدى لبريطانيا. وبالتالي، فإن من الأهمية بمكان تجنب الفجوة المتزايدة بين دول الخليج لحماية المصالح البريطانية.
ملء الفراغ في السلطة
تَمثَّل العامل الرابع الذي حفَّز بريطانيا على إقامة قواعد عسكرية في المنطقة في الوجود المتزايد للقواعد العسكرية التابعة لأطراف إقليمية ودولية.
ويُعَد تأسيس تركيا لقاعدة عسكرية في قطر مثالاً على ذلك. يمكن اعتبار شراكة أنقرة الإستراتيجية المتعمقة مع الدوحة علامةً على الفجوات التي تعاني منها السلطة في الجغرافيا السياسية للخليج. وتُعد الإمارات العربية المتحدة مثالاً آخر على السياسات العدوانية التي تتبعها الدول فيما يتعلق بالقواعد العسكرية. وضعت أبو ظبي اللمسات الأخيرة على قواعدها العسكرية في الجزيرتين اليمنيتين سقطرى وبريم، بالإضافة إلى منشآت عسكرية حديثة أخرى في مدينة عصب الإريترية.
وصلت الطموحات العسكرية لدولة الإمارات العربية المتحدة إلى الصومال، حيث أنشأت البلاد قاعدتين عسكريتين في المنطقتين اللتين تتمتعان بحكم شبه ذاتي في البلاد، وهما منطقتا إقليم أرض الصومال وإقليم بونتلاند.
التهديد الإيراني
تقف بريطانيا بحزم في صف حلفائها الخليجيين في حربهم لتحجيم الهيمنة الإيرانية، دون أن تفقد حجم تجارتها مع طهران.
وأخيراً، يجب الإشارة إلى التهديد الإيراني كسبب مهم للمبادرات البريطانية لإنشاء قواعد عسكرية على الجانب العربي من الخليج. لا تشكل طهران تهديداً مباشراً على بريطانيا، لكنها تُعد العدو الأكبر لحلفائها الإقليميين بما فيهم السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين وإسرائيل.
لذلك، تقع حكومة لندن تحت ضغوط من تلك الدول، ومعهم الولايات المتحدة، لاتخاذ موقف مضادٍّ لإيران. ومن ثم، بما أن بريطانيا لا تفضل الإضرار بعلاقاتها التجارية الثنائية مع طهران، فقد توصلت إلى حل يتمثل في توفير الحماية الأمنية لحلفائها في منطقة الخليج. وبالتالي، تقف بريطانيا بحزم في صف حلفائها الخليجيين في حربهم لتحجيم الهيمنة الإيرانية، دون أن تفقد حجم تجارتها مع طهران بالوتيرة المنشودة. وبعبارة أخرى، تدرك بريطانيا أنها بحاجة إلى الحفاظ على سياسة متوازنة.
وبرغم انزوائها بعيداً عن الأنظار في السنوات الأخيرة، كانت بريطانيا دائماً على اتصال مع دول الخليج التي كانت في يوم من الأيام خاضعة لحمايتها الرسمية. ومع تحول الجغرافيا السياسية الإقليمية، أصبحت التطلعات البريطانية للعودة إلى مجال نفوذها السابق أمراً ضروريّاً.
وبصرف النظر عن دوافعها، نجحت بريطانيا في إفساح المجال أمام نفوذ أوسع في المنطقة، الأمر الذي سيضمن بحكم طبيعته مصالحها المستقبلية.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.