الاستثناء جاء عكس القاعدة التي تعودت القمم الخليجية السابقة نهجها. كان ذاك في زمن الغرف المغلقة والقرارات السرية وحجب المعلومة التي لا يسمع المواطن الخليجي بتفاصيلها إلا في أوقات الأزمات.
أربعة وأربعون شهراً عمّرها الحصار الذي فرضته كل من السعودية والإمارات والبحرين بالإضافة إلى مصر على قطر، وشكلت أكبر أزمة في العلاقات الخليجية، وكادت تعصف بمجلس التعاون الخليجي. وطوال هذه المدة بادر أمير الكويت المرحوم الشيخ صباح الأحمد الصباحإلى القيام بمساعٍ حميدة حثيثة لرأب الصدع بين الفرقاء الخليجيين، كما شارك في هذه المساعي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وحتى الساعات الأخيرة قُبيل عقد القمة الخليجية الحادية والأربعين لمجلس التعاون الخليجي ظلّت الشكوك تحوم حول نتائج المساعي الحميدة الكويتية-الأمريكية، إذ اضطُرّ وزير الخارجية الكويتي إلى زيارة الدوحة مرتين متتاليتين في أقل من ثمانٍ وأربعين ساعة لحضّ الجانب القطري على تلبية دعوة العاهل السعودي وحضور أعمال القمة.
وكانت الدوحة حريصة على التوصل بضمانات حقيقية عبر الوسيط الكويتي، تؤكّد حسن النيات قبل تلبية الدعوة، وفي مقدمتها فتح الحدود البرية والجوية والبحرية بين السعودية وقطر.
الرياض من جانبها ظلّت متمسكة هي الأخرى بشرط تخلّي الجانب القطري عن الدعاوى القضائية المرفوعة في محاكم دولية للمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحق قطر.
ظلّ الترقب والحذر حتى صدور بيان عن الخارجية الكويتية مساء الرابع من يناير/كانون الثاني أعلن فيه عن بداية الانفراج وفتح الحدود الجوية والبرية والبحرية بين السعودية وقطر.
ونتيجة لذلك كانت طائرة أمير قطر الشيخ تميم أول طائرة قطرية بعد الحصار حطّت بمطار العلا صباح الخامس من يناير/كانون الثاني، وكسرت بذلك الحصار الجوي المفروض منذ الخامس من يونيو/حزيران 2017.
كان استقبال أمير قطر من قبل ولي العهد السعودي بالعناق، على مقربة من مدرج الطائرة، مؤشراً على بداية ذوبان الثلج في العلاقات السعودية القطرية.
وتعمق هذا الشعور خلال كلمة افتتاح أعمال القمة التي ألقاها الأمير محمد بن سلمان، وحرص من خلالها على توجيه الدعوة إلى توحيد الجهود لمواجهة التحديات في المنطقة، والتي تمثلها خصوصاً برامج إيران النووية والبالستية، والمشاريع الهدامة التي ينفّذها وكلاؤها، وفق تعبيره.
وشكّل هذا التصريح رسالة إلى العمّ سام قبل إيران، فتلك رغبة أمريكية معلنة تريد من خلالها تجفيف مصادر تمويل إيران وحرمانها من مبلغ يقدر بنحو مئة وثلاثين مليون دولار تتلقاها سنوياً من قطر مقابل فتح مجالها الجوي أمام طائرات الخطوط القطرية.
وتميز "إعلان العلا" ببلورة عقلانية خليجية جديدة أكدت ضرورة رسم حالة العلاقة بين قطر ودول الحصار، تقوم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الخليجية، واحترام أمنها وسيادتها واختياراتها.
وبكلمات أخرى، فإن قطر ستظلّ وفق تلك العقلانية، على نفس مستوى علاقاتها مع كل من إيران وتركيا، وقد تعمل في المستقبل على تقريب وجهات النظر، وحلّ الأزمات التي قد تنشب بين هاتين الدولتين ومنظومة التعاون الخليجي.
وهذا التوجه الخليجي الجديد يُدخِل مجلس التعاون الخليجي في مرحلة الإدراك بالتحولات الجيوسياسية الدائرة من حوله والتي احتاجت إلى فرض إرادة سياسية وتطلبت من الوسطاء وقتاً وجهداً كبيرين.
إلى ذلك، طوى "إعلان العلا" صفحة الخلافات الخليجية عبر تسوية القضايا العالقة، والتأسيس لعمل مؤسساتي حقيقي يدشّن من خلاله مجلس التعاون الخليجي عقده الخامس.
ما يعني أن مرحلة جديدة من التأسيس بدأت فعلاً، مع ملاحظة غياب تحديد آليات لفضّ النزاعات بين الدول الأعضاء حتى الآن تَحُول دون تكرار مآسي الحصار على قطر.
لقد بدت العقلانية الخليجية مثمرة، إذ أفضت إلى وضع أرضية مشتركة تتطلع إلى بناء كتلة خليجية قوية، أعادت المياه إلى مجاريها، بل إن الجميع أجمع على أن الأزمة انتهت دون غالب ولا مغلوب. وجسدت قمة العلا ظهور إرادة قوية لترميم البيت الخليجي، وضبط مواعيده مع المتغيرات الدولية المقبلة، وعلى رأسها وصول إدارة أمريكية جديدة تتطلع إلى بلورة رؤية خليجية منسجمة وموحَّدة تعزّز التوجه في معالجة قضايا إقليمية دقيقة، على رأسها الملفّ النووي الإيراني، ووضع أسس تكريس منطقة الخليج منطقة مستقرة وآمنة. وفي ذلك فليجتهد المجتهدون.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.