فمن ناحية، يثبت هذا التصعيد أن الحكومات والمشرعين يفتقرون إلى وعي جيد حول طريقة عمل شبكة الإنترنت، ومن ناحية أخرى، أصبحت الشركات التكنولوجية من القوة ما يجعلها تتحدى الحكومات بل ربما تعمل على ابتزازها.
أثيرت عاصفة من الجدل حول بعض التشريعات التي تنوي الحكومة الأسترالية تطبيقها بحق بعض عمالقة التكنولوجيا مثل Google و Facebook، وذلك من خلال إجبارها على دفع رسوم معينة للوسائل الإخبارية الأسترالية، وذلك مقابل المقتطفات التي تعرضها في نتائج البحث التي تملكها هذه الشركات. ردت شركة Google على هذه الخطوة بتهديدها بأنها سوف تضيق من الوصول إلى الأخبار المحلية لوسائل الإعلام الأسترالية، أو ربما تذهب أبعد من ذلك إلى حجب خدمة محرك البحث التابع لشركة Google عن أستراليا كافة. وهو الأمر الذي اعتبرته الحكومة الأسترالية نوعاً من التهديد أو الابتزاز غير المقبول.
المثير في هذه القضية هو أن جوهرها هذه المرة لا يدور حول مجرد تقاسم العوائد المالية كما يبدو للوهلة الأول، بل يتعدى إلى أبعد من ذلك، إذ يصل إلى عمق الحوكمة الرقمية من خلال البحث عن طرق للوصول إلى الخوارزميات التي تدار بها هذه التكنولوجيات. فالحكومة الأسترالية لا تطلب مجرد رقابة على تدفق رأس المال، بل على آلية التحكم في الخوارزميات، الأمر الذي يعني أن يكون للسلطات التنفيذية سلطة على آليات البحث بما يضمن تحقيق أعلى قدر من الرقابة. وهو أمر ترفضه بشده الشركات التكنولوجية لأنه يصيب جوهر عمل الإنترنت في الصميم. فالشبكة التي صممت لكي تكون لا مركزية سوف يتم تشريحها عبر هذه الإجراءات إلى مجموعة من الشبكات "القومية"، الأمر الذي يضر بشكل جوهري آليات الوصول إلى المعلومة، ويعرض حرية التعبير لخطر كبير.
يرى الكثير من الخبراء أنه مع هذه الحادثة فإن الجدل حول العلاقة بين السلطات التنفيذية والتشريعية من جانب والشركات التكنولوجية من جانب آخر قد أخذ بعداً آخر. فما كان يدور الحديث عنه في السابق حول ضرورة فرض رقابة على المحتوى الذي ينشر على هذه المنصات، تحول إلى ضرورة فرض رقابة على آلية عمل هذه المنصات. وإذا كان هناك تخوف مشروع من تمدد سلطة هذه المنصات، فإن التخوف من التدخل الحكومي أصبح يحظى باهتمام أكبر بين مناصري حرية الإعلام والتعبير. وتخوفهم ينبع من إمكانية تحول العالم الافتراضي إلى كانتونات قومية تخضع للرقابة والتحكم.
وإذا كان نموذج "الإنترنت القومي" ليس بالظاهرة الجديدة بشكل عام، حيث بادرت إلى تبنيه بعض الدول مثل الصين وروسيا وإيران إلى حد ما، فإن دخول أستراليا، وهي الدولة الليبرالية، على الخط يعتبر مؤشراً خطيراً لدى البعض، وذلك لتخوفهم من أن تنجرف الدول الليبرالية إلى نفس النموذج، وهو ما يمكن أن يضر بالنموذج الانفتاحي اللامركزي للإنترنت والذي يتمتع به مليارات من البشر.
في المقابل، فإن السلطة التي باتت تتمتع بها شركات تكنولوجيا المعلومات مثل Google وFacebook وTwitter، أصبحت مقلقة للكثير من الحكومات. فهذه الشبكات باتت مرتعاً لجهات حكومية وغير حكومية تمارس من خلالها عمليات التضليل، ونشر الأخبار الكاذبة، والتلاعب، والكراهية، حتى باتت واحدة من محركات الاستقطاب داخل المجتمعات. ومن هنا فإن البعض على الجانب الآخر يدعو إلى ضرورة فرض حالة من الرقابة على عمل هذه الشركات، سواء من ناحية المحتوى أو من ناحية النموذج الاقتصادي، من خلال وضع حد لتوجهاتها الاحتكارية لضمان التنافسية في الأسواق.
في هذا السياق، لجأت بعض الدول إلى تبني نموذج "البين-بين". أي بين النموذج الأكثر تشدداً، وهو هنا النموذج الصيني الذي يفرض رقابة صارمة على وصول الإنترنت، وبين النموذج الليبرالي الأمريكي. ويقضي نموذج "البين-بين" أن تفرض الحكومات رقابة على محتوى هذه الشركات، من خلال الطلب من الشركات المعنية تعيين ممثلين لها داخل هذا البلد، من أجل التعاطي مع قرارات المحكمة المحلية في ما يخص المحتوى الذي قد يشكل تهديداً للسلم أو إخلالاً بالأعراف المجتمعية.
اتبعت تركيا هذا النموذج وطلبت من الشركات الكبرى لتكنولوجيا المعلومات كـ Facebook، وGoogle، وTwitter، تعيين ممثلين لها رسميين على الأراضي التركية. وبينما استجابت كل من Facebook، وGoogle، لطلب السلطات التركية، رفضت Twitter الطلب وهو الذي عرضها لحظر على إعلاناتها، ولتضييق الوصول.
اعتبرت بعض الجهات أن هذه التوجهات إنما تهدف إلى الحد من حرية التعبير، وهو تصرف يخدم فقط الحكومات ذات النزعات السلطوية التي تخاف من حرية الكلمة. وهذا رأي بطبيعة الحال له وجاهته، ولكن في ظل الموازنة بين حرية التعبير والأمن، فإن المقاربة الحكومية دائماً تميل إلى مصلحة الأمن.
كما أن الاتهامات التي تكال للحكومات بممارسة الرقابة أصبحت تكال للمنصات ذاتها أيضاً. فبعد "الأربعاء الأسود" في واشنطن شنت هذه المنصات حملة رقابة وحظر واسعة على حسابات الرئيس السابق دونالد ترمب وأتباعه من التيار اليميني المتطرف. عربياً، تفرض هذه المنصات رقابة شبه شاملة على المحتوى الفلسطيني تحت ذريعة مكافحة خطاب الكراهية، ضاربة عرض الحائط بخصوصية الحالة الفلسطينية التي يمثل أهلها حالة من حالات التحرر الوطني، ولا يندرج فعلهم بأي حال من الأحوال في إطار الإرهاب أو الكراهية. هذا في الوقت الذي لا تمارس فيه المنصات ذاتها رقابة على المحتوى الإسرائيلي الذي يفيض بالمغالطات والأخبار الكاذبة والتحريض، خصوصاً من الحسابات المحسوبة على التيارات اليمينية المتطرفة.
خلاصة القول، إن حوكمة الإنترنت دخلت طريقاً جاداً، والرفاهية التي تمتعت بها شركات الإنترنت في العقود السابقة بعيداً عن رقابة وتحري الحكومات قد انتهت. نحن الآن نعيش مرحلة انتقالية، فالنموذج الحوكمي للإنترنت لم يستقر بعد على صيغة واحدة. وفي ظل حالة عدم الاستقرار هذه سوف يحاول كل طرف أن يعظم من مكتسباته على حساب الآخر، ولا يبدو أن معركة فرض الإرادات بين شركات الإنترنت والحكومات سوف تنتهي قريباً، الأمر الذي يعني أن المستخدمين سوف يبقون لفترة طويلة الطرف الأضعف والمعرضين بفعل ذلك للتلاعب والاستغلال.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.