لن يسهم التفوق في جبهة الأونلاين، بكل تأكيد، في تطهير بلادهم من الغزو الروسي ولكنه على الأقل يُبقي معنوياتهم عالية لاستمرار المقاومة. فالحرب المعلوماتية في مثل هذا النوع من النزاعات لا تقتصر مهمتها على إبطال اتصالات العدو وتشتيت انتباهه بل أيضاً رفع المعنويات وكسب تعاطف الرأي العام العالمي وهذا في الضبط ما برع فيه الأوكرانيين مؤخراً.
هذا لا يعني أن الروس قد خسروا الحرب المعلوماتية بإرادتهم أو ضعفاً منهم، ولكن ربما لأن أولويتهم كانت مختلفة وخصوصاً مع بدء أولى طلائع قواتهم دخول الأراضي الأوكرانية. بالنسبة للكرملين، فإن أهم معركة يجب تحقيق النصر فيها الآن هي المعركة الداخلية، أي الفوز بتعاطف وتأييد الشعب الروسي، والتشويش على المعارضين أو حتى إسكاتهم تماماً. لقد صاغ الكرملين رسالته للداخل الروسي عن الحرب على أنها عمليات عسكرية خاصة تهدف إلى نزع السلاح النووي الأوكراني الذي يهدد المدن الروسية، والذي يتحكم فيه النازيون الجدد الذين يحكمون من كييف. وحتى يتم ضبط إيقاع النشر الإعلامي، فرضت السلطات الروسية غرامات مغلظة على أي وسيلة إعلام أو صحافي ينشر الأخبار عن الحرب معتمداً على مصادر غير تلك التي تصدر عن الكرملين أو وزارة الدفاع الروسية، أو تصوير الحرب على أنها غزو وليس مجرد عمليات عسكرية، لقد وصلت هذه الغرامة إلى السجن لمدة 15 سنة لمن يخالف هذه السياسة.
بطبيعة الحال فإن هذه الإجراءات المتخذة ضد عمليات النشر والوصول إلى المعلومات بحرية لم تبدأ من اليوم. فالسلطات الروسية اغتالت قبل سبع سنوات زعيم المعارضة الروسية آنذاك بوريس نيمتسوف في الشارع العام بالقرب من الساحة الحمراء في موسكو وذلك إثر معارضته اجتياح بلاده جزيرة القرم ودعوته لاحتجاجات حاشدة للتنديد بسياسة الرئيس بوتين. ومنذ ذلك الحين، عمل النظام الروسي وبشكل ممنهج على اغلاق القنوات المُعارِضة، والسيطرة بشكل محكم على إنتاج القنوات الحكومية، وسجن المعارضين وأبرزهم أليكسي نافالني. ومنذ عدة أيام، قامت السلطات الروسية بإغلاق قناة Ekho Moskvy، و Dozhd وهما آخر قناتيْن كانتا تبثان وجهة النظر البديلة.
بعبارة أخرى، جزء من التقدم الأوكراني في جبهة الأونلاين يعود إلى اختلاف أولويات روسيا في هذا المضمار. هذا لا يعني إطلاقاً تجريد الأوكرانيين من نقاط تميزهم في هذا الحقل والتي استثمروها بشكل ملحوظ منذ بداية الحرب من أجل الفوز بقلوب وعقول الرأي العام العالمي واستحداث حالة كبيرة من التعاطف العالمي مع قضيتهم.
من وجهة نظري، يعتبر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مصدر القوة الأول في الدعاية الأوكرانية. فالرئيس قادم من خلفية إعلامية بالأساس، فقد كان ممثلاً كوميدياً، ولذلك فهو على دراية احترافية في التعامل مع الكاميرا، وكيفية الاختيار الدقيق للمضمون والزاوية لرسالته التي يريد إيصالها لشعبه وللعالم. وربما كلنا يتذكر الفيديو الذي خرج به على وسائل التواصل الاجتماعي بداية الأحداث والذي من خلاله أراد أن يثبت للعالم أنه مازال في قلب العاصمة كييف ويتابع العمليات العسكرية بنفسه بحضور طاقمه الوزاري الكامل. وقد حرص في ذلك الفيديو، والفيديوهات اللاحقة، على شخصنة المحتوى من خلال اللباس العادي، واللون القريب من لون اللباس العسكري، والمظهر المتواضع، وذلك لكي يقول للجميع: أنا معكم وأتحدث إليكم، الأمر الذي يجعل الرسالة أكثر إقناعاً للجمهور.
بطبيعة الحال لا يمكن إغفال أن وراء هذه الرسالة التي يريد الأوكرانيون إيصالها للعالم قضية عادلة وهي النقطة الثانية في ترسانتهم الإعلامية. فأراضيهم تتعرض لغزو من قوة مجاورة، واستقلالهم يتعرض لتهديد حقيقي بلا مبرر. فالغالبية الساحقة لا تؤمن بالرواية الروسية لتبرير هذا الغزو والتي تتمثل بوجود نظام نازي في كييف ويمتلك أسلحة دمار شامل.
منحت عدالة قضيتهم الأوكرانيين فرصة استثمار الشبكات الرقمية لنشر دعايتهم حتى ولو كانت مزيفة. كلنا يتذكر "شبح كييف" وهو الطيار الأوكراني الذي سرعان ما تحول إلى بطل قومي إثر قيامه بإسقاط العديد من الطائرات الروسية المهاجمة. لقد حصد الفيديو الخاص بشبح كييف، الذي تم مونتاجه ونشره على الحساب الرسمي للحكومة الأوكرانية على تويتر، على أكثر من 9.3 مليون مشاهدة على Twitter، وتم ذكر المنشور في آلاف مجموعات Facebook يصل عدد متابعيها إلى 717 مليون متابع. على YouTube، جمعت مقاطع الفيديو التي تروج للشبح الأوكراني 6.5 مليون مشاهدة، بينما وصلت مقاطع فيديو TikTok التي تحمل هاشتاغ #ghostofkyiv إلى 200 مليون مشاهدة.
إلى الآن تبدو القصة جميلة ولكن مشكلة واحدة فقط كائنة، وهي أن "شبح كييف" لا وجود له. نعم تقارير تؤكد إسقاط طائرات روسية في سماء أوكرانيا ولكن لا دليل يربط هذه العمليات بطيار واحد فقط. لقد أكد موقع Snipes للتحقق من المعلومات أن "شبح كييف" قصة مزيفة، فما تم عرضه في المقطع الذي نشره حساب الحكومة الأوكرانية حول الموضوع ما هو إلا مقطع مأخوذ من برنامج يحاكي طيران قتالي افتراضي تم تحميله في الأصل في قناة على يوتيوب لديها 3000 مشترك فقط. حتى الصورة التي شاركها الرئيس السابق لأوكرانيا، بيترو بوروشينكو، والتي يفترض أنها تعود لشبح كييف كانت مأخوذة من موقع Twitter لعام 2019 من وزارة الدفاع الأوكرانية.
لقد حاز موقع Snipes على انتقادات شديدة إثر فضحه زيف قصة شبح كييف. لقد كان لسان حال هذه الانتقادات يقول: دعوا الأوكرانيين يعيشون انتصاراتهم حتى ولو كانت وهمية. يرى البعض مبرراً أخلاقياً للتساهل مع هكذا تزييف طالما يخدم قضية عادلة. حجتهم الحاجة الماسة إلى رفع معنويات الأوكرانيين للاستمرار في مقاومة الغزو الذي يتعرضون له. هذه الحجة، بلا ريب، حجة الغرب وهو الذي يرى في مقاومة الأوكرانيين خط الدفاع الأول عن أمنه. ولذلك لا بأس ببعض الأكاذيب طالما سوف تصب في نهاية المطاف في دعم قضيتهم. ولذلك لم نر أي رد فعل من منصات التواصل الاجتماعي لمنع هذه الدعاية أو تضييق الوصول إليها كما تفعل عادة فيما يتعلق بالأخبار الكاذبة. وهذه نقطة القوة الثالثة في جعبة الأوكرانيين في هذا السياق. بطبيعة الحال هذا لا يعني أن كل ما ينشره الأوكرانيون هو محض تزييف. على العكس تماماً. المقصود هنا أن روايتهم لا تتعرض للتضييق حتى ولو كانت مزيفة وهذا ما يجعل وصولها واسعاً جداً، على عكس الرواية الروسية التي فرضت عليها هذه المنصات كثيراً من التضييق.
أخيرا، أنا هنا لست في صدد إطلاق الأحكام الأخلاقية على هذا الطرف أو نزعه من ذلك. أنا هنا للقول إن الحرب المعلوماتية ضرورة ملحة في أي صراع، والفوز بتعاطف الرأي العام العالمي لا يعد أقل أهمية من الفوز في معارك الميدان. وفي الحرب الدائرة في أوكرانيا نرى أن الأوكرانيين يحققون تقدماً ملحوظاً على الروس في جبهة الأونلاين لاعتبارات عديدة على رأسها اختلاف أولويات روسيا في هذه الجبهة، وعدالة قضية الأوكرانيين، وصمود زعيمهم ومعرفته الإعلامية، ومساندة منصات التواصل الاجتماعي المطلقة.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.