نادراً ما بدا "البوندستاغ" بهذا القدر من التوافق بين أحزاب الائتلاف الحكومي والمعارضة. إنها الجلسة التي خصّصها البرلمان الألماني لمناقشة ملف حركة "المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات" الموجَّهة ضد الاحتلال الإسرائيلي، أو "بي دي إس" اختصاراً.
انتهت الجلسة المنعقدة يوم17مايو/أيار بقرار شديد اللهجة ضدّ هذه الحركة التي صبّ عليها متحدثو الكتل البرلمانية أقسى النعوت الذميمة بزعم أنها "معادية للسامية، وتريد تدمير إسرائيل".
خضع المتحدثون البرلمانيون على ما يبدو لتأثير مصادر مكرّسة لتشويه "بي دي إس"، مما تنفق عليه حكومة بنيامين نتنياهو بسخاء، فرسموا صورة مفارقة لحقيقة ظاهرة صاعدة في المجتمع المدني العالمي منذ صدور "نداء المقاطعة الفلسطيني" عام 2005.
تجاهل النواب مثلاً أنّ عدداً من روّاد حركات المقاطعة هذه عبر العالم هم من اليهود أساساً، وأنها تعتمد خطاباً واضحاً يرتكز على مبادئ حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وأنّ أسلوب المقاطعة ذاته لجأت إليه حركات التضامن عبر العالم مع قضايا عدّة، وكان فعّالاً في الضغط على نظام التفرقة العنصري في جنوب إفريقيا.
أنجزت الأحزاب اليمينية مراجعات داخلية لخطابها وبدّلت وجهتها بأن تبنّت تأييد الاحتلال الإسرائيلي بلا مواربة.
ألقى الماضي الألماني بأعبائه مجدداً على مواقف الكتل النيابية إلى درجة تبنِّيها سردية الاحتلال الإسرائيلي الدعائية القائمة على التشهير بحركة "بي دي إس" بلا تردُّد.
لكنّ الخلفيات اليمينية المتطرفة لحزب "البديل لأجل ألمانيا" دفعته إلى مرافعة أكثر التصاقاً بالمواقف الإسرائيلية قياساً بالكتل النيابية الأخرى.
طالب الحزب الواقع في أقصى يمين الساحة السياسية الألمانية بإجراءات أكثر صرامة ممّا قرّره النواب الآخرون، حتى إنه نادى بحظر "بي إي إس" بالكامل وليس الاكتفاء بالتضييق عليها أو قطع التمويل الحكومي عن مؤسسات وتجمعات تتعاون معها.
خلف هذا الموقف انعطافة جماعية أقدمت عليها أحزاب اليمين الأوروبي المتطرف التي تسعى جاهدة للفكاك من وصمة "العداء للسامية" التي لاحقتها.
أنجزت الأحزاب اليمينية مراجعات داخلية لخطابها وبدّلت وجهتها بأن تبنّت تأييد الاحتلال الإسرائيلي بلا مواربة، وطوت عهد جيل الروّاد التقليدي مثل لوبن الأب في فرنسا، ويورغ هايدر في النمسا وآخرين.
واجهت النسخ القديمة من هذه الأحزاب متاعب جمّة مع تعبيرات وتسريبات منسوبة إليها فُهِمت على أنها ذات إيحاء نازي أو أوحت بكراهية اليهود، بما كبح تطلُّعاتها لدخول الأروقة السياسية، حتى إنّ أول مشاركة حكومية ملحوظة لها في القارة قوبلت بعقوبات غير مسبوقة من الاتحاد الأوروبي، كما جرى مع النمسا سنة 2000.
بخلاف جيل الرواد في أحزاب اليمين المتطرف، يحرص الجيل الحالي على عدم إظهار أي تعبيرات سلبية نحو اليهود أو الاحتلال الإسرائيلي، وما يلفت الانتباه هو مزايدته على أحزاب الوسط السياسي في تأييد الاحتلال، كما تجلّى في جلسة "البوندستاغ" الألماني بحق حركة "المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات".
خلاف جيل الرواد في أحزاب اليمين المتطرف يحرص الجيل الحالي على عدم إظهار أي تعبيرات سلبية نحو اليهود أو الاحتلال الإسرائيلي.
لهذا صلة بما تمّ في العقد الأول من هذا القرن من حسم الوجهة الجماعية الجديدة لهذه الأحزاب، مثل الجبهة الوطنية في فرنسا، وحزب الحرية في النمسا، وحزب الشعب في الدنمارك، والكتلة الفلمنكية في بلجيكا، ورابطة الشمال في إيطاليا، وحزب التقدّم في النرويج، ونسخ اليمين الليبرالي المتطرف كالتي يعبِّر عنها خيرت فيلدرز في هولندا.
تستبعد النسخ الجديدة أي إشارة صريحة أو إيحائية قابلة لأن تُفهَم على أنها "عداء للسامية"، وأعادت تصنيف خصمها الأوّل بالعداء بالإسلام والمسلمين مع ربطه بملف الهجرة واللجوء.
مضت "العنصرية الانتقائية" إلى حدّ الإمعان في تملُّق الاحتلال الإسرائيلي معتبرة أنّ "إسرائيل هي الجبهة المتقدمة للدفاع عن أوروبا في وجه الإسلام المتطرف"، كما قيل على ألسنة قادة هذه الأحزاب بصيغ متقاربة بدءاً من سنة 2009.
لا جديد، إذًا، في سلوك حزب "البديل" خلال جلسة "البوندستاغ" المخصصة للتضييق على حركة "بي دي إس" في ألمانيا، فالحزب يعتبر نفسه ممثِّل "أصدقاء إسرائيل" في الجمهورية الاتحادية، ولا يتوانى عن نسج علاقات وثقى حتى مع مستوطني الضفة الغربية، بما يتجاوز معايير أوروبية تقليدية في اعتبار نشاطهم الاستيطاني انتهاكاً للقانون الدولي.
كتبت النائبة والقيادية البارزة في الحزب الألماني المتطرف بياتريكس فون شتروخ، مقالة في موقع القناة السابعة التابعة للمستوطنين "آروتز شيفا" (31يناير/كانون الثاني2019) تحت عنوان "الحكومة الألمانية تلاحق أصدقاء إسرائيل لا معادي السامية"، وصفت فيه حزبها بأنه "مؤيد لإسرائيل "ولم تبخل بتعبيرات "الإرهاب الإسلامي" و "العداء المسلم للسامية" ونحوها.
قبل ذلك بسنة تماماً، في مطلع فبراير/شباط 2018، عقد حزب "البديل" ندوة في "البوندستاغ" للتحذير من "العداء للسامية" وكرّسها للتشهير بالمسلمين.
برز ضمن متحدثي الندوة ضابط الموساد والوزير الإسرائيلي الأسبق رافي إيتان، الذي طالب ألمانيا "بإغلاق الحدود وبوقف الهجرة الجماعية المسلمة إلى أوروبا"، وأعرب عن أمله في "أن لا يكون حزب البديل بديلاً لألمانيا فقط، وإنما لأوروبا" ككلّ.
أوجز رافي إيتان، بهذا التعبير الفجّ، منطق الانعطافة التي خاضتها أحزاب اليمين الأوروبي المتطرف، التي تبرِّر خطواتها بفكرة "العدو المشترك"، المتمثل بصفة صريحة في "الإسلام" الذي تناصبه أحزاب أقصى اليمين العداء وترى في محتلي فلسطين جبهة متقدمة في صدِّه عن أوروبا.
إنه ليس استثناء ألمانياً على أي حال، فالتقارير المتاحة تتحدّث عن لقاءات يعقدها مسؤولون بارزون من تشكيلات أقصى اليمين الأوروبي مع أوساط إسرائيلية يعبِّر بعضها عن ذروة التطرف، ومن ذلك ما نشرته "جيروزاليم بوست" في 28مارس/آذار 2017، قبيل الانتخابات الرئاسية الفرنسية، عن لقاءات تمّت بين قياديين في "الجبهة الوطنية" بزعامة مارين لوبن ومسؤولين إسرائيليين.
يتحاشى الجانب الإسرائيلي الإفصاح عن هذه الزيارات ولا يُبرزها إعلامياً، لكنّ هذه الأحزاب تتباهى بها وتنشر مقاطع مرئية وصوراً وتقارير مكثفة عن زياراتها المكللة بالوقار لنصب "ياد فاشيم" في القدس المحتلة أو اصطحاب صحافيين في جولات ميدانية لتأييدها الاحتلال بلا تردّد أو اعتراضات.
عبّر السياسيون الشعبويون الأوروبيون في زياراتهم الإسرائيلية تلك عن تودُّد جارف للاحتلال وسلطاته وجيشه ومستوطنيه.
بمثل هذه الزيارات التي قام بها قادة اليمين الأوروبي المتطرف إلى فلسطين المحتلة تم تتويج انعطافة التبرّؤ من ماضي هذه الأحزاب ذات الجذور الفاشية.
عبّر السياسيون الشعبويون الأوروبيون في زياراتهم الإسرائيلية تلك عن تودُّد جارف للاحتلال وسلطاته وجيشه ومستوطنيه.
استغرقت إحدى هذه الزيارات، مثلاً، سنة 2010، مئة ساعة كاملة من التعبئة الدعائية الإسرائيلية دون أي اعتراضات عقلانية أو أخلاقية من سياسيي اليمين النمساوي المتطرف الذين زاروا جنرالات في جيش الاحتلال وقادة الاستيطان ومسؤولين إسرائيليين من الدرجة الثالثة.
شاهد هانز كريستيان شتراخه، زعيم حزب الحرية النمساوي، خلال جولته الاستعراضية تلك، قطاع غزة، لكن من فوهة دبابة إسرائيلية رابضة قبالته، وارتدى ملابس جيش الاحتلال المثقلة بالذخائر واعتمر القبعة العسكرية وصبغ وجهه بخطوط التمويه السوداء مفاخراً بصنيعه.
تحرّك الوفد اليميني المتطرف عبر فلسطين المحتلة لزيارة زعماء المستوطنين في الضفة الذين ألقوا سرديات أسطورية وفاشية على مسامعهم لا تعترف بوجود فلسطينيين فوق هذه الأرض.
خلال عقدين من الزمن أعاد اليمين الأوروبي المتطرف إنتاج خطابه المشبّع بإيحاءات عنصرية عبر وضع المسلمين في بؤرة العداء أكثر من أي وقت مضى.
تراهن الوجوه الجديدة لهذا المشهد المتطرف على تملّق الاحتلال الإسرائيلي لطيّ ماضيها، استعداداً لدخول أروقة الحكم، وهو ما حققه بعضهم بالفعل في بلدان أوروبية قد تتبعها أخرى.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.