وإذا كانت أوروبا ستعاني على المدى القصير من تفاقم أزمة الطاقة قبل أن تجد البدائل المناسبة للغاز الروسي، فإن روسيا ستعاني على المدييْن القصير والمتوسط من أزمة اقتصادية ومالية متصاعدة وتدفع ثمناً أكبر لإيجاد من يشتري إنتاجها من الغاز والنفط.
بغض النظر عن التطورات العسكرية التي تتراوح بين مبادرة بوتين إلى تدارك "الحركة الخاطئة" بوقف الغزو والاستعاضة عنه بحرب استنزاف عسكرية وسياسية بين الجمهوريتين الوليدتيْن وأوكرانيا، وبين توسيع الغزو ليشمل احتلال العاصمة كييف وفرض حكم موال لروسيا والمخاطرة بتحول أوكرانيا إلى أفغانستان الاتحاد السوفييتي، فيبدو واضحاً وجود مسار مستقل لملف الغاز وضعته أمريكا بالتفاهم مع أوروبا.
ويقضي هذا المسار بتحرير أوروبا من الارتهان للغاز والنفط الروسي، كمقدمة أو شرط ضروري لتقليص المبادلات التجارية والاستثمارية والاقتصادية عموماً بين الطرفين. ما يؤدي حسب رؤية الإدارة الأمريكية إلى أزمة اقتصادية ومالية في روسيا تساهم بإعادة الرئيس بوتين إلى أرض الواقع أو إلى "بيت الطاعة".
أزمة أسعار وليس إمدادات
لكي تتوضح صورة المشكلة وصورة التطورات المرتقبة يجدر ملاحظة أن أزمة إرتفاع أسعار الطاقة في أوروبا خلال العامين الماضيين ليست بسبب نقص في الإمدادات. بل يكمن السبب الرئيسي في سياسات الطاقة والنظام الذي اعتمدهما الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الماضية والقاضي بتحرير سوق الغاز واعتماد قوى السوق لتحديد الأسعار وليس نظام العقود طويلة الأجل. وهو الأمر الذي جعل السوق الأوروبية عرضة دائماً للتقلبات.
وكما عمل هذا النظام لصالح أوروبا بعد أزمة 2009 إذ كانت الأسعار الفورية أقل بكثير من أسعار العقود طويلة الأجل، لعبت قوى السوق ضدها خلال العامين الماضيين فحلقت الأسعار بشكل غير منطقى لتصل إلى حوالي 50 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية مقابل حوالي 4 دولارات في أمريكا مثلاً.
ويلاحظ أن هذا النظام بات موضع انتقاد عدد كبير من الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي الذين يحملون المسؤولية لما بات يطلق عليه "بيروقراطيو بروكسل". وحل مشكلة الأسعار تتطلب قبل البحث بقضية الإمدادات مراجعة هذه النظم والعودة إلى العقود طويلة الأجل وهو ما تصر عليه دولة قطر كشرط لزيادة كبيرة ومؤثرة في شحناتها من الغاز المسال إلى أوروبا.
ولتكتمل الصورة لابد من إضافة أسباب أخرى أقل أهمية، مثل تسرع الدول الأوروبية في تقييد انشطة الوقود الأحفوري تماشياً مع التزامات تخفيض الانبعاثات، وإقفال وتقليص المحطات النووية. وكذلك ارتفاع الطلب بعد التعافي الجزئي من جائحة كورونا.
مشكلة الإمدادات
معروف أن الاتحاد الأوروبي يعتمد على استيراد الغاز الطبيعي من دول خارج كتلة الاتحاد بنسبة بلغت حوالي 90% في العام 2019 من بينها نحو 43.4٪ من روسيا، وبنسب متفاوتة من أمريكا والنرويج والجزائر.
والملاحظ أن روسيا التزمت حتى اليوم بتوريد الكميات المتفق عليها في العقود فقط، ولم تبادر إلى الاستجابة لطلبات زيادة الشحنات في السوق الفورية ربما كنوع من "فحص الإجهاد" لأوروبا والضغط عليها لإزالة القيود المفروضة على خط نورد ستريم 2.
ولكن يمكن القول أنه لم يحدث نقص مؤثر في الإمدادات. كما يلاحظ أن السحب من المخزونات الاستراتيجية لم يكن بسبب نقص في الإمدادات بل لأسباب تجارية باعتبار أن تكلفتها أقل من أسعار العقود الفورية، ما يساعد في تقليص ولو جزئي في الأسعار للمستهلكين.
وتجدر الإشارة هنا إلى هشاشة الموقف الأوروبي في حال قطع الإمدادات الروسية، لضآلة المخزونات الاستراتيجية مقارنة بالولايات المتحدة واليابان اللتيْن تملكان مخزونات ضخمة منذ حظر النفط العربي في 1973، والأدهى أن شركة غاز بروم الروسية هي التي تمتلك الحصة الأكبر من سعة تخزين الغاز في أوروبا.
هل تقطع روسيا الإمدادات
مع أن الخبراء يستبعدون أن تغامر روسيا بقطع كلي لإمدادات الغاز كرد فعل على تصاعد العقوبات، والتضحية طوعاً بمصدر رئيسي للإيرادات، وتعريض مصداقيتها كمورد موثوق للطاقة، وهو الأمر الذي حرصت على تحقيقه طوال نصف القرن الماضي. ولكن من غير المستبعد أن يلجأ السيد بوتين إلى قطع جزئي للإمدادات لتذكير أوروبا بأهمية هذه الإمدادات ودفعها للتروي في معاداة روسيا. كما أن مرور حوالي ثلث صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا عبر أوكرانيا، يسمح بتوقع تقلص هذه الإمدادات أو قطعها بالكامل .
ومن سيعوض النقص
هذا هو السؤال الكبير.. ويبدو أنه "عند جهينة الخبر اليقين"، فإدارة الرئيس بايدن حضّرت الإجابة وهي عبارة عن حزمة متكاملة من المصادر البديلة على المدييْن القصير والمتوسط مع تغيير أنظمة وسياسات الطاقة في أوروبا لتسهيل الحلول.. وأهمها ما يلي:
أولا. زيادة شحنات الغاز الأمريكي المسال المخصصة لأوروبا مع تحويل جزء من الشحنات المخصصة للدول الآسيوية إلى الدول الأوروبية، بعد تنفيذ الاتفاق الذي جرى التوصل إليه الشهر الماضي مع أستراليا لتعويض الشحنات الأمريكية لآسيا، مستفيدة من قرب المسافة والقدرة على عرض أسعار أقل.
ثانيا. تطبيق هذه المقاربة على شحنات الغاز القطري، ولكن بعد رضوخ أوروبا لمطلب قطر بالموافقة على إبرام عقود طويلة الأجل وهو ما كانت ترفضه في السابق. وهو أمر بات ممكناً بعد إعلان المفوضية الأوروبية وقف تحقيق بدأ العام 2018 مع شركة قطر للطاقة بدعوى إعاقة التدفق الحر للغاز في أوروبا انتهاك قواعد مكافحة الاحتكار. علماً بأن قطر أعلنت على لسان وزير الدولة لشؤون الطاقة سعد الكعبي أنها لم تخاطب بعد العملاء الآسيويين بشأن تحويل إمدادات الغاز إلى أوروبا. ولكن يبدو أن الإدارة الأمريكية أخذت على عاتقها هذا الأمر، خاصة إذا توفر البديل من الغاز الأسترالي.
ثالثا. مواصلة النرويج زيادة الضخ من الحقول العاملة والجديدة إلى الدول الأوروبية، كما يمكن للجزائر ضخ حوالي 7 مليارات متر مكعب إضافية ولكن ذلك يتطلب حل مشكلة اتفاقية العبور مع المغرب وهو أمر ممكن بتدخل من أمريكا. ويوجد أيضاً خط غاز السيل الجنوبي الذي تم تدشينه العام الماضي والهادف أصلاً إلى تقليل الاعتماد على الغاز الروسي، ويمكنه نقل حولي 10 مليارات م/3 من غاز أذربيجان.
رابعا. تعديل سياسات الطاقة الأوروبية للتوسع في مشاريع الطاقة النووية إلى جانب مشاريع الطاقة المتجددة واعتماد صيغة العقود طويلة الأجل بدلاً من سياسة تحرير أسواق الغاز. إضافة إلى تطوير البنية التحتية لاستقبال الغاز المسال وحل مشكلة عدم توافر محطات التغويز الكافية (إعادة الغاز المسال إلى حالته الغازية). خصوصاً وأن أسعار الغاز المسال باتت أقل من الغاز الجاف المصدر عبر خطوط أنابيب طويلة. كما أن خيار الأنابيب يحمل مخاطر سياسية وأمنية عالية.
مراقبة تطورات غاز المتوسط
من القضايا الجديرة بالمتابعة والمراقبة، تلك المتعلقة بغاز شرق المتوسط. وتشير المعطيات والتطورات متسارعة إلى أن الولايات المتحدة رمت بثقلها لإيجاد حلول للمشاكل الشائكة التي تعيق الاستغلال المكثف لموارد الغاز وخاصة تلك المتعلقة بترسيم الحدود البحرية بين دول المنطقة. ويبدو أن مشكلة الترسيم بين لبنان وإسرائيل وضعت على نار حامية ويتوقع أن تبلغ خواتيمها خلال الأشهر المقبلة.
أما المشكلة الأكبر الخاصة بالنزاع بين تركيا واليونان في بحْرَي إيجة والمتوسط والمسألة القبرصية، فيبدو أن الولايات المتحدة باتت أقرب إلى تبني وجهة النظر التركية في الترسيم. كما باتت أقرب إلى اعتماد خيار خط أنابيب من المتوسط إلى تركيا كبديل عن خط إيست ميد الذي أعلنت مؤخراً سحب دعمها له.
وهناك خيارات أخرى يتم تداولها منذ سنوات من بينها إنشاء خط أنابيب من قطر إلى تركيا مروراً بسوريا، او خط من إيران إلى سوريا، ولكن هذه المشاريع يبدو أنها ستبقى حتى إشعار آخر في مرحلة رسم الخرائط والتمنيات. فقطر تفضل مواصلة اعتمادها على الغاز المسال، أما إيران فلديها مشكلة كبيرة في زيادة إنتاجها إضافة إلى حاجتها الملحة لأي زيادة في سوقها المحلية.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.