هناك أسباب أخرى متفرعة عنه تتعلق بالدفاع عن الوطن، وعن الديمقراطية والحرية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، وقبل ذلك وبعده عدالة القضية، والإحساس الطبيعي بالثقة والأمل الحتمي في الانتصار في النهاية، وفق المقولة الشهيرة للشاعر محمود درويش التي وصف بها حال الشعب الفلسطيني "إننا محكومون بالأمل"، ويمكن بالتأكيد اقتباسها في السياق الأوكراني أيضاً.
إذاً يتمتع الأوكرانيون بشعور قومي عالٍ وينظرون إلى أنفسهم كمقاتلين شجعان وذوي تقاليد حضارية وثقافية وفكرية، وروايات تُحكى عبر الأجيال، وهم مميزون مختلفون حتى من الروس، كما يفضلون أن يقدّموا أنفسهم باستقلالية في اللغة والتراث والثقافة والموسيقى والطعام ونمط الحياة بشكل عام.
الأمجاد التاريخية تُذكِي الروح القومية
كان الأوكرانيون طوال الوقت مركزيّين ومؤثرين في بناء الاتحاد السوفييتي السابق، وأوكرانيا كانت من الدول المؤسسة للأمم المتحدة، وحاضرة إلى جانب روسيا وزعيمها السابق جوزيف ستالين في مبنى المنظمة الأممية بنيويورك في العام 1945.
يمثّل هذا الأمر في الحقيقة الأساس القوي للعناد والصمود في مواجهة محاولة أي احتلال أجنبي لبلدهم، وبخاصة من روسيا تحديداً. ومن هنا تبدو روايات ومزاعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن اصطناع أوكرانيا، وأنها تابعة أو كانت دوماً جزءاً من روسيا، خارج أي سياق تاريخي أو واقعي تماماً، كتقديم نفسه كمن يصحح أخطاء القادة التاريخيين أمثال فلاديمير لينين وجوزيف ستالين.
ضمن الشعور القومي، والأساس والقاعدة الدينية للشعور القومي، لا بد من الإشارة إلى أن القديس الأمير فولوديمير الكبير هو أوكراني الأصل، وكان أميراً لمدينة كييف. واستقلال الكنيسة الأرثوذكسية عن موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، كان حدثاً تأسيسياً وتاريخياً أيضاً، وهي تنظر إلى نفسها نداً -أو حتى متقدمة- على نظيرتها الروسية، ويمكن هنا ملاحظة المقاربة الدينية والسياسية التي قدّمها البطريرك الأوكراني إيبيفاني للغزو وتجريد القيادة الروسية من أي غطاء أو إطار ديني له.
لا ينفصل بل يعبّر عما سبق كله الشعور الأوكراني بأنهم يقاتلون دفاعاً عن ديمقراطيتهم وحقهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم في ظلّ نظام ديمقراطي مؤسساتي في الانضمام إلى الغرب والاتحاد الأوروبي، وحتى مع الاقتناع بالصعوبة إلى حدّ الاستحالة للانضمام إلى حلف الناتو، في تَماهٍ واقعي مع المستجدات والوقائع، والاستعداد للتفاوض والتوصل إلى حلول وسط بشكل مسؤول وعقلاني في مواجهة المطالب الروسية "غير الواقعية أو المنطقية" حسب التعبير المحقّ للناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، في سياق دعوته إلى ضرورة وقف الحرب غير الضرورية فوراً، والعودة إلى طاولة المفاوضات لحل الخلافات عبر الحوار سياسياً وسلمياً.
لدى الأوكرانيين شعور بأنهم يدافعون عن أوروبا وقيمها أيضاً، في ظل الحديث عن كسر التوازنات والحدود والكيانات، ومن هنا الإحساس بالثقة والقوة المتزايدة لكونهم يخوضون معركة مبدئية لصالح أوروبا، وكذلك العالم المتحضر، العالم الذي يريد أن يكون بعيداً عن مفاهيم الغزو والاستخدام الفظّ والغاشم للقوة بين الجيران.
المجتمع الدولي متّحد تقريباً للدعم، ولو حسب القدرات والإمكانيات المتاحة لعزل روسيا عبر العقوبات الصارمة المتخذة ضدها. فالتعاطف الدولي يطال كل القطاعات، بخاصة الشعبية والمؤثرة منها، بما في ذلك الفنون والرياضة، التي غُصّت ساحاتُها وملاعبها وميادينها بمظاهر التعاطف مع أوكرانيا دولةً وشعباً.
الصمود الأوكراني يتعلق إذاً بالدعم العالمي الواسع المعنوي والمادي المتصاعد، رغم الشعور بالتخلي وتواضع الدعم في البداية، لكن مع الوقت وقياساً إلى صمودهم ازداد الدعم لهم لدرجة أن ألمانيا أرسلت لأول مرة أسلحة ومعدات فتاكة إلى الخارج في تغيير لعقيدتها الاستراتيجية والقتالية المعمول بها منذ ثمانية عقود تقريباً، كما تزايدت ثقتهم بأنفسهم، بخاصة مع وصول أسلحة نوعية من دول أخرى، لا تزال غير كافية وبحاجة إلى المزيد، ولكنها مهمة بالتأكيد لاستمرار الصمود والمقاومة.
القيادة القدوة أساس الصمود
يرتبط أو -للدقة- ما يعبّر أيضاً عن المعطيات السابقة كلها النموذج القيادي الذي قدّمه الرئيس الأوكراني المنتخب فولوديمير زيلينسكي، الذي اسمه على اسم الأمير القديس حسب التهجئة الأوكرانية، والذي بقي ثابتاً لم يهرب مثلما فعل محمد أشرف غني، علماً أنه يقود الحرب المفروضة بأكملها وعلى جبهاتها المختلفة السياسية والإعلامية والعسكرية، ووجوده وسط الناس ومعهم، يُعتبر تجسيداً دقيقاً للدور القيادي في مفهوم ومنظومة الحكم الرشيد، حيث القائد يتقدم في كل شيء، حتى الصمود والثبات والتضحيات، ومن هنا أيضاً بات هدفاً مركزياً للغزاة، وفي هذا الصدد ليس غريباً ما نشرته صحيفة تايمز أمس الثلاثاء عن إرسال مرتزقة إلى العاصمة لاغتياله أو القبض عليه حيّاً لمحاكمته، بتهمة وفرية "النازية"، وهي في الحقيقة تهمة تنسف من جهتها الأساس الواهي للغزو.
من الزاوية أو وجهة النظر العسكرية، وفي ما يتعلق بالصمود أيضاً، فقد كشف الجيش الأوكراني عن حقيقة الجيش الروسي، المعتمد على النموذج الشيشاني "الأرض المحروقة" مما يمثل جريمة حرب بحد ذاتها، وافتقار الجيش الروسي إلى التكنولوجيا المتقدمة، والخطط والتكتيكات العسكرية المتطورة. ولعلنا هنا لا بد من أن نتذكر ما قاله ذات مرة السفير الأمريكي السابق في سوريا جيمس جيفري عن معركة إدلب في مارس/آذار 2020، التي نجحت تركيا خلالها في إيقاع أضرار فادحة وقاصمة بقوات النظام، والأسلحة الروسية التي كان يستخدمها، وتأكيده أن موسكو لن تذهب إلي تصعيد كبير مرة أخرى كي لا تنكشف أسلحتها ومعداتها أمام التكنولوجيا التركية المتطورة، وعلى وجه التحديد طائرات بيرقدار المسيَّرة. كما رأينا أيضاً في سوريا وليبيا وإقليم قره باغ الأذربيجاني المحرر.
تكشف جغرافية أوكرانيا عن بلد كبير، ومن الصعب تصور أن يتمَّ غزوه بهذه السهولة، وسيقاوم وسيواجه إلى آخر رمق، مع الشعور القومي العالي والإحساس بالاعتداد بالنفس لنحو 50 مليون شخص يمثِّلون سكان أوكرانيا تقريباً، فمساحة البلاد أكبر من فرنسا، ولا يمكن تصور أن يكون احتلالها سهلاً أبداً، بخاصة على المدى المتوسط والطويل.
وعموماً وباختصار فما سبق يفسّر مجتمِعاً الانخراطَ الواسع للأوكرانيين في التجنيد للدفاع عن بلادهم في مواجهة الغزو الروسي، وحمل السلاح من الجنسين، كما من جميع الطبقات والفئات الشعبية المختلفة. ولذلك وبعد أسبوع تقريباً على الغزو، لم تستطع روسيا احتلال أي مدينة أوكرانية بشكل كامل، رغم الاستخدام الغاشم والفظّ للقوة، واتباع سياسة الأرض المحروقة عبر قصف المؤسسات والبنى التحتية. وحتى لو حصل ذلك، وتم احتلال البلد أو مناطق منها، فستكون مقاومة أوكرانية شرسة وعنيدة، وحرب مدن قاسية، مدعومة من الإقليم والعالم كله، وبالتأكيد سيكون انتصارها حتمياً وفق طبائع الأشياء، وحقائق التاريخ والجغرافيا، ولو بعد حين.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.