أياً كان رأي المرء في أهمية وسائل روسيا في سياستها الخارجية تجاه إفريقيا، فإنها بالفعل تمثلُ نقطة تحوُّل في السياسة الخارجية الروسية. تجسدت هذه الرغبة في العودة في أكتوبر/تشرين الأول 2019 إلى سوتشي خلال القمة الروسية-الإفريقية الأولى بحضور نحو خمسين ممثلاً عن دول القارة، هذه المبادرة تجسّدُ رغبة كبيرة روسية لتمديد نفوذها داخل القارة الإفريقية، وذلك لأهمية ومحورية هذه القارة في الصراعات القادمة بالنسبة إلى الدول الكبرى.
تحاول روسيا عبر هذه المبادرة المتمثلة في "القمة الروسية الإفريقية" تقديم نفسها مدافعاً عن سيادة هذه الدول ضد الاستعمار القديم والجديد، وحصناً ضد زعزعة الاستقرار. تهدف هذه المبادرة قبل كل شيء إلى فصل هذه الدول التي تضررت من الاحتلال ومخلفاته من دول الغرب، وتقديم نفسها على أساس أنها دولة تسعى للتعاون مع هذه الدول الإفريقية من أجل تجاوزِ هذا التحدي السياسي والأمني.
يسمح تغلغلُ روسيا بين جنبات القارة الإفريقية باستعادة مكانتها كقوة عالمية، بخاصة على خلفية التوتر المتصاعد مع أوروبا والولايات المتحدة، تشكل إفريقيا مجالاً مناسباً لنشر أنشطتها وتكتيكاتها الروسية في قطاع الصناعات الاستخراجية، التي نُفّذت في ليبيا وخلقت عبره ما بات يُعرفُ بـ"جيوسياسية الفوضى".
روسيا لا تخشى مواجهة فرنسا في مناطق نفوذها في القارة السمراء، لا سيما في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي، بل وجود الإرث الاستعماري لفرنسا في القارة السمراء سهّل دخولِ الروس إليها بحكم أن خطاب إجلاء المستعمر الفرنسي يجدُ حضوراً كبيراً في وجدان المواطنين، وإن كان ذلك بإدخال مستعمرٍ جديدٍ أشد على أراضيهم، ومؤهلٍ أكثر للبقاء بعد الدخول، واستنزافِ الخيرات والمكتسبات، بصيغة أخرى باتت رغبة إخراج المستعمرِ الفرنسي من الحدود الإفريقية لدول عديدة دافعاً مهماً استثمرتهُ روسيا من أجل تثبيت أركانها داخل جنبات دول إفريقية عديدة ومهمة.
وهنا يمكنُ مثلاً الاستشهادُ بموقفِ أهوا دون ميلو الإيفواري الذي كان المتحدث الرسمي باسم الحكومة ووزير المعدات داخلها حينما قال إن "التنافس سيكون دائماً ضد فرنسا بسبب ماضيها الاستعماري وتدخلاتها الأخيرة في كوت ديفوار وليبيا"، وما يعززُ هذا الطرح أن روسيا لا تمتلكُ ماضياً سلبياً مع الدول الإفريقية، وهو ما جعل البعض يرى روسيا كدولة محررة، رغم أنها محتلٌّ جديد بأدوات جديدة تتفقُ مع الاحتلال القديم في منطق استنزاف الثروات والخيرات، وتضيفُ إليه آليات جديدة في خلق القلاقل والأزمات الأمنية التي ورثتها من وجودها في بقاع جغرافية عديدة مثل سوريا.
روسيا وتوظيفها للقوة الناعمة في إفريقيا
صورة روسيا المحررة معززة بسياسة قوية توظفُ بذكاء من موسكو، تعتمدُ بشكل خاص مثلاً على مجموعات الطلاب من إفريقيا جنوب الصحراء تم الترحيب بهم في الجامعات الروسية، وأصبح عددهم ما بين 7000 و9000 طالب يأتون إلى روسيا سنوياً.
كما لا ننسى توغل الأدوات الإعلامية الروسية مثل قناة "روسيا اليوم" التي تبثّ اللغة الروسية وثقافتها بين جنبات عدد مهمّ من الدول الإفريقية، كما توجهُ روسيا آليات السياسة الناعمة الأخرى المتمثلة في المساعدات والمشاريع التنموية التي تستهدفُ دولاً بعينها وجهات بعينها من أجل تمديد نفوذها الناعم داخل القارة، وهو ما نجدهُ مثلاً في المشاريع التي تستهدفُ السودان وجنوبها وجمهورية الكونغو الديمقراطية وتشاد وإثيوبيا وصولاً إلى مدغشقر.
ورغم أن هذه المساعي مستمرة من أجلِ تمديد روسيا نفوذها الناعم داخل القارة، فإنه من المهمّ أن نشيرَ هنا إلى أن الالتزامات التي أعلنت عنها روسيا تجاه القارة السمراء من أجل تنميتها، والمتمثلة بما قيمته 11.2 مليار دولار، خلال القمة الروسية-الإفريقية الأولى، لم تتحقق، لأن التجارة في عام 2021 تعادل ما كانت عليه في عام 2018، المتمثل بما يناهز نحو 20 مليار دولار سنوياً ، وهو ما يعادل التعاملات التجارية لدولة مثل تركيا تجاه إفريقيا، وهو ما يجعلها متخلفة عن الركب مقارنة بالصين التي تستثمرُ في إفريقيا قرابة 185 مليار دولار، والاستثمار الروسي في حالة ركود عند أقل من 1% من إجمالي الاستثمار الأجنبي في إفريقيا.
ولم يساعد اللقاح الروسي (Sputnik V) على تعزيز سياسته الناعمة تجاه إفريقيا، إذوافق أحد عشر بلداً فقط على تلقي هذه الجرعات، بسبب مدى نجاعتها في مواجهة كوفيد-19.
القوة الصلبة الروسية في إفريقيا
إذا ما تم النظرُ إلى المشهد من هذه الزاوية المرتبطة بتمدُّد القوة الناعمة الروسية في إفريقيا، قد يتبادر إلى الذهن أن روسيا لاعبٌ ثانوي في القارة، لا تنظر الدول الإفريقية إلى روسيا كسوق محتملة، مما يحدّ من رغبتها في التقارب السياسي معها، وبالتالي يقتصر معظم التعاون مع جهات ودول معينة تربطهم بروسيا علاقات تاريخية، وهذه الاستراتيجية ليست في مجملها خاطئة، بل تستثمرُ روسيا في القارة وفق إمكانياتها التي تعرفُ أنها محدودة من الناحية المالية، ولكنها في المقابل قوية من الناحية العسكرية، وهنا تكمنُ أهمية شراكاته التي تربطهُ تاريخياً مع مجموعة من البلدان مثل الجزائر ومصر وجنوب إفريقيا.
فالجزائر ومصر مثلا تهيمنان على ثلثَي الصادرات، كما تجسدُ الجزائر بالتحديد مثالاً لبقاء مخلَّفات المعسكر الشرقي الذي جمع الجزائر بالاتحاد السوفييتي ووريثه الشرعي روسيا، هذا الإرث جعل الجزائر تستهلكُ 30% من واردات الأسلحة الروسية المتجهة نحو إفريقيا جنوب الصحراء، فروسيا تزود الجزائر بـ67% من مشترياتها للأسلحة، وذلك وفقاً لأرقام المعهد الدولي لأبحاث السلام (Sipri)، هذه العلاقة التاريخية سهلت لروسيا الوجود في القارة الإفريقية، بخاصة أن كلا الطرفين يرى دخول الولايات المتحدة الأمريكية من بوابة المغرب لمنطقة شمال إفريقيا وغربها، تحدياً لهما معاً.
وما يعززُ هشاشة سياسة روسيا في القارة الإفريقية تقرير صدر من مركز الأبحاث التابع لكلية موسكو للدراسات في العلوم الاقتصادية نُشر مؤخراً، يشي بأن "استراتيجية روسيا ما زالت تتسم بطابع رد الفعل والتجزئة"، ويشيرُ التقرير إلى ما أشرنا إليه، المرتبطِ بأن العديد من المشاريع التي تم الإعلان عنها لم يرَ النور، هذا الطابع القائم على "ردات الفعل" للسياسة الروسية واضح للغاية عندما يتعلق الأمر بمرتزقة فاغنر، فتدخلاتهم تتم بمنهجية، ولكن في المساحات التي تشهدُ عدم الاستقرار أو تُركت شاغرة من قبل القوى أخرى، هذه السياسة رغم محدودية فعاليتها فإنها جعلت فرنسا تتكبدُ خسائر كبيرة.
ولكن يجبُ أن نؤكد أن هذا التواجد رغم محدوديته لو قورن بالصين، إلا أنهُ يشكلُ منفذا لمزاحمة الدول التي لها تواجد تاريخي مثل فرنسا على الثروات الأفريقية وخاصة المعدنية؛ وهنا يجبُ الإشارة إلى التنقيب الذي تقومُ به مجموعات متخصصة كانت تتواجدُ مع قوات فاغنر الروسية، هؤلاء حسب مجموعة من التقارير تم نقلهم جواً من القاعدة العسكرية الروسية في اللاذقية بسوريا، إلى بنغازي في ليبيا؛ استغلت روسيا بشكل دائم في فوضى حقبة ما بعد القذافي، في عام 2019 استولت فاغنر على حقلي الشرارة والفيل في ليبيا، وذلك بفضل 1200 جندي متمرس، معززين بجنودٍ سوريين.
هذه الخبرة التي شكلتها روسيا ميدانياً في افريقيا وكذا شراكتها التاريخية مع الجزائر مهد لها الطريق نحو مناطق أخرى في القارة وبالتحديد في غرب افريقيا التي تشهدُ انتشار أزيد من 600 مسلح روسي في مالي اليوم، الداعمين للمجلس العسكري في مالي، الناتج عن انقلابين في باماكو (أغسطس 2020 ومايو 2021) اللذين يعملان سوياً من أجل تحجيم النفوذ الفرنسي، وان كان ذلك على حساب الديمقراطية، هذا التواجد الى الان يعرفُ نجاحاً روسياً في تكريس سياسة إدارة الازمات والقلاقل الأمنية بدل حلها.
ولكن حتى نفهم المشد كاملاً وجب استحضار إخفاقات التواجد الروسي في القارة السمراء كذلك؛ خاصة هزيمة فاغنر في موزمبيق في سبتمبر 2019، وذلك رغم أن الرئيس فيليب نيوسي كان حريصًا على توطيد علاقاته مع موسكو وبالتالي الاستفادة من القوة الأمنية الروسية، خاصة فيما يتعلق بتحييد التمرد الجهادي الذي ظهر في الطرف الشمالي من البلاد، في عام 2017، في منطقة كابو ديلجادو الغنية بالغاز وموارد التعدين، بعد عامين من التمرد، وجدت روسيا نفسها متورطة في مواجهة مع داعش وفي لمقابل لا تتحصلُ على شيء من قطاعات التعدين (مثل الياقوت) الذي يسيطرُ عليه جنرالات البلاد هناك، وهو ما جعل التواجد الروسي هناك عبارة عن خطأ استراتيجي كبير كلفهم ماديا وعسكرياً ، ولكن هذا اخفاق واحد امام نجاحاتٍ متوالية لروسيا في القارة تتقوى الان في غرب افريقيا بالتحديد.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.