إنها تتغول على حساب حقّ المواطن في الاحتجاج والمطالبة بالعدالة والحرية والكرامة، وإنها تقول للجميع، وبمختلف الصيغ، أن لا احتمال لإعادة توزيع السلطة أو الثروة، وأن السيناريو المستمر، وبقوة القهر والأشياء، هو الدولة/الليفيتان/الوحش، كما سماها "هوبز" يوماً.
في النسختين الأولى والثانية لربيع الشعوب، كان الوطن العربي على موعد مع لحظات تاريخية، كانت ستحسم الآن وغداً بشكل أفضل، لكن سوء الاختيار أو تضارب المصالح وتباينها، أو بشكل أوضح تعارض منطق هذه اللحظات وآفاقها المحتملة مع طموحات مالكي وسائل الإنتاج والإكراه، كل ذلك أتى على آخر ذرات الانصلاح، وضيّع علينا مزيداً من فرص الانتقال السوي نحو دولة المواطنين لا الرعايا، المنضبطة بامتياز للحقّ والقانون.
وعليه، وبدل أن تتراجع الدولة العربية عن "غِيّها" واستبداديتها، فإنها عملت، أكثر فأكثر، على إعادة تدوير أدواتها القمعية والآيديولوجية، في اتجاه إلغاء الصوت المضادّ، والإعلاء، بالمقابل، من فرضية الإجماع والموالاة، توكيداً للتغوُّل والتسلُّط.
لقد بات واضحاً، وفي أكثر من بلد عربي، أن قوس الديمقراطية الذي انفتح بضغط الربيع، قد انغلق وإلى غير رجعة، وأن "حليمة عادت إلى حالتها القديمة"، فلم يتردد "غول" الدولة، مؤخراً، في اللجوء إلى قمع المظاهرات السلمية وتكميم أفواه الصحافة وتهميش "السياسي" وإلغاء كل منافس أو مزاحم ممكن في الصراع الدائر حول القيم والثروة والسلطة.
لقد استعادت الدولة من الجرح إلى الجرح، مختلف الترسيمات التي ترسبت وتقعدت في المخيال الاجتماعي عن "هيبتها" و"قوتها"، ما منحها، نوعاً من الاستئساد وفائضاً من التضخُّم الهوياتي.
تراهن الدولة، أي دولة، وباستمرار، على تحصين ثوابت الشرعية والمشروعية، وتحصيل أكبر قدر ممكن من الطاعة والإجماع والموالاة، عبر تجذير مكانتها وحضورها في مختلف تفاصيل الحياة المجتمعية، فما من حقل أو فعل، إلا تسجل فيه مؤسسات الدولة، حضورها المفارق الذي يشي بامتلاك السلطة والنفوذ، علماً بأنه في حالات الاستبداد العربي، يصير هذا "المفارق" إمعاناً في العنف والقمع وامتهان كرامة المواطن، حتى تعي جيداً أن "الحكومة" أو "المخزن" أو "الدولة"، تبعاً للتوصيفات المختلفة، هي مصدر النعمة أو النقمة.
ومع ذلك فإن الكثير من الوصفات "الآيديو إعلامية" التي صاغها ونفذها صناع القرار العربي، في أعقاب الربيع، لم تفِد كثيراً في تلميع صورة الدولة داخليّاً وخارجيّاً، ولا استطاعت احتواء مجموع الاحتقان والغضب الشعبي الذي يتنامى بشكل ملحوظ، فجُلُّ التقارير الدولية تعلن وتضمر أن الوطن العربي يقف على حافة الانهيار وأن القلاقل الاجتماعية متوقعة الحدوث، مهما تَغَولت السلطة وتَقَوت أدوات "التخدير" السياسي.
كان، ولا يزال، ربيع الشعوب، ضرساً موجعاً بالنسبة للدولة العربية، وعلى الرغم من كل خيارات التهميش والمزاحمة والتمييع التي انتهجت قبلاً، وتتواصل آناً، لسرقة الربيع من شبابه و"كندانته"، فإن "الليفيتان" العربي عجز تماماً في محاولات اقتلاع هذا الضرس المؤلم والفاضح، بل إن فعل الاقتلاع نفسه لم يعُد ممكناً آناً، فشروط الألفية الثالثة لا تسمح بهكذا فعل، تحديداً في ظل آلة إعلامية وحركة حقوقية لا تنتهي من توجيه الصفعات إلى الدول التي تنتهك حقوق الإنسان، وهو ما يأتي بجرة قلم على كل رهانات التلميع وتوكيد الانتماء إلى سجل دولة الحق والقانون، فما الحل الأمثل للانتهاء من أوجاع ضرس لا يقبل الاقتلاع؟
الحلّ يكمن، بالنسبة إلى الدولة المتغولة، في بناء ثقافة الإجماع والانقيادية، بدل الانتصار لثقافة الاختلاف والخلاف أيضاً، فالأصوات التي تغرد خارج السرب، باتت معدودة ومحاصرة، وممنوعة من الصرف في الإعلام العمومي.
إذ تسعى الدولة العربية اليوم، عبر "إعلامييها" و"مثقفيها" وباقي ملحقاتها، وبكل ما أوتيت من أدوات آيديولوجية وتدجينية، لتمرير خطاب وحيد يفيد بأنها الأقدر على تمييز الصالح من الطالح، والنيابة، بإطلاقية تامة، عن المواطن، في تقرير الأحوال والمصاير، باعتباره قاصراً ينطبق عليه مفهوم الرعية لا المواطنة.
لقد أصبحت الدولة العربية دولة مطلقة لا حدود لسلطاتها، ولا إمكان لمواجهتها والوقوف في وجه "تغولها" السياسي والثقافي والاجتماعي، إن لها امتدادات في تضاريس المجتمع كافة، تسير في اتجاه "التأميم" الرمزي والمادي لكل شيء، وهو ما يعني بروز شكل جديد من "الأنظمة الشمولية" التي تمنع الأفراد من الإسهام في التغيير وإعادة كتابة تاريخ الأنساق.
إنها تعمل على مَرْكَزَةِ القرار السياسي وتعميق تدخلها في أكثر القطاعات حيوية، بدءاً من التعليم إلى الاقتصاد والإعلام، مروراً بالمُقدَّس والثقافي والسياسي، بحيث لا يخلو مجال ما من دينامية "الدَّوْلَنَةِ" أو "المَخْزَنَةِ" بالتعبير الدارج في المغرب الأقصى أو "الأقسى" فلا فرق.
إننا نلاحظ اليوم، سعياً حثيثاً لمالكي وسائل الإنتاج والإكراه في الزمن العربي، لتذويب كل الأحزاب والفئات المعارضة، وإعادة صهرها ضمن قالب الولاء والتطبيل، كما نلاحظ استحواذاً متواصلاً على كل المؤسسات والفاعليات، بحيث لا يصير هناك من صوت إلا صوت الدولة، ولا من تغيير إلا ما تجود به على المواطن من هِبَات وعطايا.
وبالطبع فإن وصولها إلى هذا الحد من "السلطوية" و"الاستبداد الناعم"، لم يكُن ممكناً إلا باستخدام عميق للأجهزة القمعية والآيديولوجية، التي قادت نهايةً إلى تدجين السياسي والمثقف وتقريب الفئات المحظوظة، فضلاً عن الإمعان في التفقير والتجهيل لأكثر الفئات تهميشاً، منعاً لانقداح الفكرة الثورية، وتعميقاً للتفاوت والتمايز الاجتماعي.
كان حريّاً بالدول العربية إبان ربيع الشعوب، أن تعي الدرس، وتقلل من حضوريتها المطلقة، وأن تعي أن قوتها في قوة المجتمع لا في إضعافه وتمريغ كرامته أرضاً. فعندما تتفوق الدولة على المجتمع، وتمنع المبادرة والصوت المختلف والمعارض، وتحول المجال العامّ إلى "معتقل مفتوح"، لا تتردد فيه سوى مقولات الزعيم ولا تستجدّ فيه سوى البلاغات الرسمية، حينها تكون الدولة/الغول، قد ابتلعت كل ديناميات الحراك، وأفقدت المجتمع مناعته السياسية، وحوّلته، ضدّاً على إرادته، إلى "قطيع" سلس الانقياد.
إلا أن ما لا تستوعبه جيداً، هو أنها بممارساتها التغوُّلية هذه، تصنع نهايتها، وتعمّق الهوة بينها وبين الشعوب، ذات الشعوب التي لا تنسى، مهما أمعن الجلاد تعذيباً وقهراً.
لقد وُجدت الدولة، لتنظيم الحياة الجمعية، والخروج من واقعة حرب الجميع ضدّ الجميع، إلى حالة من السلم والتعاون والتضامن، وفق تعاقد اجتماعي أساسه الفصل بين السلطات، والمأسسة بدل الشخصنة، انتصاراً لدولة المواطنة والحقّ والقانون، تلكم هي أساسيات ومرجعيات بناء الدولة والاحتكام إلى منطقها في الديمقراطيات العريقة.
ولكنها -للأسف- لا تغدو كذلك في "خريف" الربيع العربي، إنها سائرة على درب التغول والشمولية والمطلقية، وهو ما سيكون سبباً قويّاً لاندلاع موجات جديدة من الغضب الشعبي الهادر.
فعلى الرغم من محاولة "الدولة المتغولة" إخفاء تسلطيتها وجعلها في شكل "استبداد ناعم" عن طريق الميديا والبروباغندا، فإن الشعوب قادرة على الانتفاض وإعادة كل شيء إلى الصفر، فالشعوب لا تموت، قد يتم تنويمها بمفاعيل سياسية وإعلامية ودينية قوية، إلا أنها تستعيد وعيها وتخرج منتفضة، ففي البدء كان الانتفاض.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.