فبعد خمس جولات من المفاوضات في جنيف على مدى عام ونصف العام تقريباً، بدا من الواضح أن اللجنة الدستورية لن تصل إلى أي نتيجة، في ظل تعنت النظام السوري ومحاولته إفراغ أي نقاش من محتواه. الجولات الأولى، والتي تخللها انقطاع بسبب أزمة كورونا، كانت عبارة عن تراشق للاتهامات، فيما لم يتوصل المجتمعون من وفد النظام والمعارضة إلى اتفاق حتى على تحديد أجندة الاجتماعات اللاحقة.
فيما لم تختلف الجولة الخامسة والأخيرة التي شهدتها أروقة مبنى الأمم المتحدة في جنيف، بين الخامس والتاسع والعشرين من يناير/كانون الثاني الماضي، في نتائجها عن سابقاتها. فقد كانت المفاوضات أشبه "بندوة جدل"، وفق توصيف المبعوث الأممي، وليست مفاوضات سياسية. فيما استمر وفد النظام في السعي لإفراغ المفاوضات من محتواها، عبر التمسك بنقاشات عامة ومفتوحة حول الرموز الوطنية وعروبة الدولة، فضلاً عن استغلال طاولة المفاوضات كمنصة لتكرار مواقفه السياسية.
بعيد فشل الجولة الأخيرة، ذهب المبعوث الدولي ولأول مرة منذ تعيينه إلى تحميل النظام السوري مسؤولية تعطيل مسار المفاوضات. حيث عبر بيدرسون في مؤتمره الصحفي، في التاسع والعشرين من يناير/كانون الثاني، عن خيبة أمله من سلوك النظام السوري وممثله الكزبري، الذي قام برفض مقترحات رئيس وفد المعارضة هادي البحرة، وكذلك مقترحات بيدرسون نفسه. وأضاف بيدرسون "لا نستطيع أن نكمل بهذا الشكل".
مسار اللجنة الدستورية الحالي كان قد يستمر في المنوال ذاته، لولا حدوث التغير في البيت الأبيض وقدوم الرئيس الأمريكي بايدن بتصور جديد للسياسة الخارجية الأمريكية. فبايدن يبشر بعودة أمريكا من جديد للعب دور قيادي على مستوى السياسة العالمية، ويعد بأن إدارته لن تقف صامتة أمام التجاوزات الروسية.
وفي السياق ذاته، فإن وزير الخارجية الأمريكي الجديد بلينكن كان واضحاً في انتقاده لسياسات أوباما، التي وصفها بأنها فاشلة، في الملف السوري. وجهة النظر التي يشاطرها إياه رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية الجديد ويليام بيرنز. ولهذا فإن مقاربة أمريكية جديدة أكثر انخراطاً في الملف السوري في طريقها للتشكل، خاصة في ظل الانتقادات التي تواجهها مقاربات الإدارات السابقة.
اللجنة الدستورية ربما ستكون أولى الملفات على أجندة الفريق الأمريكي الجديد المعني بالملف السوري، والذي ما زال في طور التشكيل. خاصة في ظل دور أمريكي محدود في هذا المسار، الذي جاء نتيجة لإدماج مسار أستانا ومخرجات مؤتمر سوتشي، الذي رسمت ملامحه روسيا وتركيا وإيران، مع مساعي البعثة الأممية.
وفي سياق متصل فإن فرنسا، التي يعد بايدن بترميم العلاقات معها، لم تخفِ انتقادها سابقاً لمسار اللجنة الدستورية، التي تراها اختزالاً مجحفاً للإطار السياسي الذي يرسمه قرار مجلس الأمن 2254. وقد كان ممثل فرنسا في مجلس الأمن قد صرح في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بأن نتاج اللجنة الدستورية "يكاد يكون معدوماً".
وما قد يمهد الطريق أكثر للدفع بالتغيير على صعيد المفاوضات السياسية هو أن تعثر مسار اللجنة الدستورية يترافق مع زيادة التوترات على الأرض، وفشل التفاهمات التي ترعاها روسيا في عدة مناطق خاضعة لسيطرة النظام السوري، أهمها درعا والسويداء والحسكة. ففي درعا لم يلتزم النظام بالتفاهمات التي جرت برعاية روسية، ما مثل خيبة أمل بالضامن الروسي مع استمرار حالة التوتر الأمني. وفي السويداء المجاورة لا يبدو الوضع أقل توتراً مع تصاعد التظاهرات من فترة إلى أخرى، والحديث عن توتر بين المسؤول الأمني في المدينة لؤي العلي وأحد القادة الروحيين للدروز "بهجت الهجري"، انتهت باتصال الأسد بالهجري وإقالة العلي. أما في الحسكة فقد شهدت المدينة مؤخراً مواجهات بين مليشيات الحماية الشعبية وقوات النظام السوري، توسعت ارتداداتها إلى القامشلي.
الخطر المحدق بمسار اللجنة الدستورية دفع الضامنين الثلاثة لمسار أستانا (روسيا، تركيا، إيران) إلى التحرك لمحاولة إنقاذ اللجنة وإبقاء طاولة المفاوضات بشكلها الحالي قائمة. خاصة أن هذه التحديات الدبلوماسية والميدانية تأتي في وقت يعمل فيه النظام السوري على تهيئة الأجواء للانتخابات الرئاسية القادمة، والتي يأمل من خلالها النظام السوري، ومن خلفه روسيا، أن تمثل بوابة لإعادة شرعنة النظام السوري وتعويمه من جديد.
تحركات الضامنين لإنقاذ الموقف بدأت قبل الجولة الأخيرة للمفاوضات. حيث توجه المبعوث الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لافرينتييف سراً إلى دمشق والتقى مع الرئيس السوري، قبل أن ينتقل إلى جنيف، في محاولة لتثبيت الأوضاع على الأرض والتنسيق مع النظام السوري.
وبشكل متوازٍ مع الجولة الأخيرة توجه مسؤولون إيرانيون وأتراك وروس إلى جنيف في محاولة لإعطاء دفعة لمسار اللجنة الدستورية. وعلى الرغم من أن الهدف المعلن للقاء الثلاثي هو اجتماع للضامنين، فإن الاجتماع حمل رسائل لمختلف الأطراف بأن الضامنين الثلاثة ما زالوا ملتزمين بالمسار السياسي، وبأنهم يضعون ثقلهم لدفع مسار اللجنة الدستورية قدماً.
ويبدو أن وفد المعارضة السورية قد استجاب للرسائل المختلفة، حيث أصدر مكتب رئيس وفد المعارضة هادي البحرة بياناً قال فيه إن على الأمم المتحدة "تسمية الأمور بمسمياتها"، فيما دعا بعثة الأمم المتحدة لتحديد جدول زمني للمفاوضات.
هذا التصعيد النسبي من قبل المبعوث الأممي، والمساعي المقابلة من قبل الضامنين لإنقاذ الموقف، تأتي في ظل تحضيرات المبعوث الأممي لتقديم إحاطة عن مجريات المفاوضات لمجلس الأمن في التاسع من شهر فبراير/شباط الجاري، وترتيب زيارة محتملة له إلى دمشق في الفترة القادمة. فيما سيجتمع الضامنون الثلاثة لمسار أستانا (روسيا، تركيا، إيران) في سوتشي في السادس عشر من الشهر الجاري.
محصلة هذه الإشارات المختلفة تفيد بوضوح بأن مسار اللجنة الدستورية الحالي غير مستدام سياسياً، فيما تضغط التوترات على الأرض باتجاه التغيير، خاصة مع قدوم إدارة جديدة للبيت الأبيض. التغيير المحتمل في مسار المفاوضات السياسية لن يكون جذرياً في ظل العقبات الهيكلية التي تواجه البعثة الأممية، وعدم وجود نية دولية لإحداث تغيير جذري، والاكتفاء بالسعي لتغيير "سلوك" النظام السوري، لا النظام نفسه.
وعلى هذا فالمتوقع أن يكون التغيير متراوحاً بين إعادة ضبط وتفعيل اللجنة الدستورية، أو العمل على اجتراح أدوات جديدة لتطبيق رؤية قاصرة لقرارمجلس الأمن 2254، لا ترقى للسعي لتحقيق انتقال سياسي، خاصة في ظل تكهنات باحتمالية ألَّا يحتل الملف السوري أولوية للإدارة الأمريكية.
انهيار مسار اللجنة الدستورية أو إعادة ضبطه سيمثل ضربة للدبلوماسية الروسية تجاه سوريا، التي نجحت حتى الآن في إعادة تشكيل المقاربة الدولية وفق أولوياتها. كما أن تراجع دور منصة أستانا في الملف السوري ليس في مصلحة إيران، التي أعطاها مسار أستانا ومن ثم اللجنة الدستورية إمكانية لعب دور دبلوماسي كانت تفتقر إليه في مسار جنيف.
لكن في المقابل، وعلى الرغم من التحديات الدبلوماسية والميدانية التي قد يفرضها هذا التغيير المحتمل على أنقرة، فإن إعادة تفعيل مسار اللجنة الدستورية أو الدفع باتجاه آليات جديدة لتطبيق القرار 2254 قد تصب في مصلحة تركيا، الضامن لمصالح المعارضة السورية، والتي لا تشارك روسيا وطهران مساعيهما لتعويم النظام السوري.
سعي فرنسا والولايات المتحدة للعب دور أكثر فعالية في المسار السياسي يحمل فرصاً وتحديات لتركيا، فمن جهة لا تبدي الولايات المتحدة وفرنسا تفهماً لمخاوف أنقرة الأمنية بشأن قوات الحماية الشعبية، لكن من ناحية أخرى فإن سعيهما لفرض ضغوط أكبر على النظام السوري وتفعيل المسار السياسي قد يخلق مساحة للتعاون تبدو تركيا في أمس الحاجة إليها لتعزيز الثقة المهتزة بين أنقرة وواشنطن، وأنقرة وباريس.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.