وتنتسب أسرة سيد نقيب العطاس إلى الدوحة النبوية الشريفة، إذ كان للعلماء والدعاة الحضرميين أثر عظيم في نشر الإسلام في كثير من بقاع العالم، وخاصة في جنوب شرقي آسيا، حيث ما يزال الكثير من أبنائهم هناك قادة للعمل السياسي والدعوي، يفتخرون بانتمائهم إلى منطقة حضرموت في جنوب اليمن. ولقد ظلت العلاقات بين حضرموت وجنوب شرقي آسيا ممتدة لمئات السنين، حتى مجيء الاستعمار الياباني لإندونيسيا في فترة الحرب العالمية الثانية، فانقطعت علاقة التواصل تلك. ولكن للأسف الشديد ما إن وضعت الحرب أوزارها حتى حدثت تغيرات سياسية جذرية في جنوب اليمن، تمثلت في سيطرة اليسار اليمني على مقاليد الحكم ومحاولته الدؤوبة لفرض الاشتراكية بقوة السلاح، وما صاحب ذلك من بطش وتنكيل كبيرين ضد العلماء المسلمين والمؤسسات الصوفية في حضرموت، ممَّا أدى إلى إطالة الجفوة بين جنوب شرقي آسيا وحضرموت حتى قيام دولة الوحدة اليمنية عام 1990.
تلقى العلامة والفيلسوف الإسلامي المعاصر سيد نقيب العطاس تعليمه الجامعي في جامعة سنغافورة قبل انفصال الأخيرة عن الاتحاد الماليزي، كما تلقى تعليمه في الدراسات العليا في جامعات غربية عريقة، عمل في البعض منها لاحقاً أستاذاً زائراً. يعد العلامة سيد نقيب العطاس من كبار علماء الأمة الإسلامية المعاصرين في مجال الفلسفة الإسلامية وإصلاح التعليم، ومن أوائل الدعاة إلى إنشاء الجامعات الإسلامية وفقاً للرؤية الكلية للإسلام نحو الوجود، إذ يرى سيد نقيب العطاس أن يكون التعليم الجامعي في البلاد المسلمة امتداداً لا انقطاعاً عن تراثها الفكري والفلسفي العظيم. فمن خلال إصلاح التعليم تستطيع الدول المسلمة أن تنشئ أجيالاً من أبنائها يحملون مشاعل التقدم والتطور والنهضة وفق قيمها الإسلامية الثابتة. ويعتقد سيد نقيب العطاس أن هذه القيم الإسلامية الثابتة ما كان لها أن تشوه أو تهتز لولا غزو الأوروبيين العسكري والفكري لكثير من بلاد المسلمين في القرن التاسع عشر، حيث حرصوا آنذاك على إدخال أنماط التعليم الأوروبي الحديث الذي يحمل في جذوره الإرث التاريخي الأوروبي بما فيه من قيم فلسفية وأخلاقية متغيرة ومتقلبة قوامها فصل الدين عن الحياة العامة، واختزاله في المؤسسات الدينية ودور العبادة تحت مظلة العلمانية. ويزعم العطاس أن العلمانية هي نتاج لصراعات فكرية وسياسية كان مسرحها التاريخ الأوروبي نتيجة لانتقال مركز الدين المسيحي من مدينة القدس، مهبط الكثير من الأديان السماوية، إلى روما الوثنية الأوروبية، وعليه لم يعد للدين الذي جاء به المسيح عليه السلام نقاؤه وصفاؤه تحت مظلة الكنيسة المسيحية الأوروبية. ولذلك ليس عجباً أن يتعلم الكثير من أبناء المسلمين في جامعات البلاد المسلمة على مناهج جامعات أوروبية علمانية وأحياناً يدرسونها بلغات الأوروبيين أنفسهم، فينشأ الطالب المسلم وهو لا يعرف إلا القليل عن أمور دينه، وعن تاريخ أمته الإسلامية ومناقبها الحضارية التليدة، ومن هنا بدأ الفصام الثقافي والتعليمي ينخر في جسد المجتمعات المسلمة وخاصة العربية منها، فأصبح حال التعليم الجامعي فيها كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
يجب أن يكون التعليم الجامعي في البلاد المسلمة امتداداً لتراثها الفكري والفلسفي العظيم وليس انقطاعا عنها
- إسلامية المعرفة المعاصرة
تقوم فكرة إسلامية المعرفة المعاصرة عند الفيلسوف الإسلامي سيد نقيب العطاس على تحرير العقل المسلم من كل الخرافات والأفكار المنحرفة، سواء كانت نتاج ثقافته المحلية أو المستوردة، مثل العلمانية والاشتراكية وغيرهما من الأيديولوجيات الغربية، والرجوع إلى دين الله الحنيف والفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها من إقرار بربوبية الخالق واتباع للمنهج النبوي والقيم الأخلاقية الراسخة التي جاء بها. ففكرة الجامعة الإسلامية عند سيد نقيب العطاس لا تنحصر فقط في تدريس المواد المتعلقة بالدين الإسلامي من القرآن والسنة والشريعة الإسلامية واللغة العربية، وإنما تمتد لتشمل تدريس كل المواد وفقاً للرؤية الإسلامية للوجود، وينطبق هذا الفهم حتى على تدريس مواد مثل الفيزياء والأحياء، فالمسلم الذي يدرس هذه التخصصات عليه أن ينظر إليها وينظر فيها من خلال الرؤية الكلية للإسلام نحو الوجود.
الدارس مثلاً لعلم الأحياء، ينبغي عليه أن يدرك تعارض نظرية دارون مع تعاليم الإسلام، ومن الخطأ الفادح النظرة إلى العلوم المعاصرة الغربية التي تدرس في جامعات الدول المسلمة على أنها علوم مجردة من القيم الفلسفية أو محايدة في قيمها الأخلاقية، فالدارس للفلسفة الغربية ونشأة وتاريخ العلوم المختلفة فيها يدرك خطل هذا الادعاء. ولا يدعو العطاس هنا إلى القطيعة الثقافية والعلمية مع الغرب، وإنما يدعو إلى الحفاظ على قيمنا الإسلامية الراسخة ومبادئ إسلامنا الحنيف في تعاملنا مع العلوم والفلسفة الغربية. وهنا يختلف سيد نقيب العطاس اختلافاً كبيراً مع بعض دعاة التجديد الديني حيال موقفهم نحو التراث الإسلامي حينما يدعون لإعادة صياغة التراث الإسلامي بما يواكب العصر الحديث، إذ يعتقد العطاس أن التراث الإسلامي ما زال حياً يعيش بيننا بإسهاماته الثرة من موسوعات لغوية وفقهية وفلسفية كإسهامات العلامة ابن منظور مثلاً في اللغة العربية التي لا غنى لدارس اللغة العربية عنها، إذ يولي العطاس هنا اهتماماً خاصاً للغة العربية في إطار المشروع الفكري لإسلامية المعرفة المعاصرة.
تأثر العلامة سيد نقيب العطاس تأثراً جلياً بحجة الإسلام الإمام الغزالي رحمة الله عليه، إذ كان للإمام الغزالي القدح المعلى والنصيب الوافر في منازلة الفلاسفة المسلمين المتأثرين بالفلسفة اليونانية من أمثال الكندي وابن سينا وغيرهم، ومحاولتهم التقريب بين الفلسفة اليونانية وبين الدين الإسلامي الحنيف.
قامت الحكومة الماليزية تقديراً لإسهامات الفيلسوف الإسلامي سيد نقيب العطاس بإنشاء المعهد العالمي للفكر والحضارة الإسلامية في كوالالمبور في منتصف الثمانينيات وفقاً لتصوره الفلسفي والعلمي، حيث عمل مديراً مؤسساً للمعهد وأستاذاً لكرسي حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمة الله عليه. يحمل الكثيرون من تلاميذ العطاس فكره الفلسفي العميق في مجال التعليم وإسلامية المعرفة المعاصرة، وينتشرون قادة ومدرسين في كثير من المؤسسات التعليمية في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية.
حقيق على الأمة الإسلامية أن تحتفي بعلمائها مثل سيد نقيب العطاس، وحقيق على الحكومة الماليزية أن ترشحه لجائزة الملك فيصل الإسلامية في خدمة الإسلام والعلوم الإسلامية. أستاذي الجليل الفيلسوف الإسلامي الكبير سيد نقيب العطاس طبتم وطاب عيد مولدكم الكريم.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.