عملية الإسقاط السريعة المفترضة التي تَوعَّد بها جورج بوش آنذاك للتخلص من طالبان، دامت قرابة عقدين وأنتجت صراعاً دمويّاً استنزف الطرفين وأدّى إلى التخلي عن دعم الحكومة الأفغانية وتسليم البلاد في نهاية الأمر.
كان الانسحاب وما زال مثار جدل في الأوساط السياسية، إذ سمّى البعض ذلك انتصاراً للأمة الإسلامية في مواجهة الغزو الأمريكي الشيطاني الذي كان يهدف إلى فرض قيم الغرب على العالم الإسلامي ومحاولة تطويعه وإخراجه من عباءته الأصولية، فيما عده آخرون هزيمة نكراء لأمريكا بعد سلسلة مفاوضات قادها رؤساء متعاقبون بوساطات دولية مختلفة من دون الوصول إلى نتيجة، بالتزامن مع حرب مفتوحة خسرت فيها أمريكا كثيراً من جنودها وعتادها وكلفها خسارة سمعتها كمنتصر وحيد وأبدي، لأنها الدولة العظمى في العالم.
كل ذلك كان مقدمة جيدة لتعلن طالبان انتصارها بعد انسحاب آخر جندي أمريكي، وتكسب تأييداً عالمياً كبيراً بعد إجبار الدولة المتقدمة عسكرياً على الانسحاب، ضاعف ذلك التأييد الخطاب التقدمي الذي توجهت به طالبان إلى العامة وإلى وسائل الإعلام بفتح صفحة جديدة ومختلفة خالية من العنف وتمهد لخلق دولة متقدمة علمياً وسياسياً.
كان تحرك طالبان سريعاً بعد أن نفذ بايدن وعده الانسحاب في نهاية أغسطس/آب، فسيطرت على عدة مدن وأقاليم في وقت بدا فيه سقوط الحكومة الأفغانية المدعومة من أمريكا مدوّياً أمام العالم.
أفواج من الأفغانيين بدؤوا حزم أمتعتهم في سباق مع الزمن للهرب من الحكم المستقبلي المتوقَّع لنهج الحركة، واكتظّ مطار كابول بحركة مغادرين غير مسبوقة، كما ازدحمت المعابر الحدودية بالفارّين خوفاً من تطبيق طالبان لسياسات انتقامية، ويرى الأغلب اليوم أنهم كانوا محقّين في مخاوفهم، فالوعود التي قطعها زعماء حركة طالبان بالتغيير ما لبثت أن تكشفت عما هو عكس ذلك تماماً، بحيث تبخرت أحلام كثيرين ممن لم يلحقوا بركب الهاربين في مطار كابول ومن عوّلوا على إنصاف الزعماء الجدد، ومن صدقوا شعاراتهم وخطابهم الواعد بالتغيير وبناء دولة بمفاهيم جديدة متناغمة مع العصر وحامية لحقوق المواطنين وضامنة لحقوق النساء.
منذ فترة قريبة بدأت المظاهرات النسائية الاحتجاج على وضع النساء في أفغانستان وازدادت وتيرتها بعد قرار الحركة إغلاق المدارس الخاصة بالفتيات حتى إشعار آخر ومنع الفتيات من التعليم بعد الصف السادس الابتدائي، على الرغم من أن الاستعدادات كانت جاهزة لمباشرة التعليم.
حُرم كثير من الفتيات إكمال تعليمهن منذ وصول طالبان إلى السلطة، كما مُنعت النساء مزاولة أعمالهن وبات وضع المرأة لا يبشّر بنتائج إيجابية على المدى المنظور في ظل استبعاد واضح وممنهج من الحياة العامة، فيما لم تُعطِ الحركة أي ردّ فعل تجاه الانتقادات والاحتجاجات على الرغم من مطالبة المنظمات والمجتمع الدولي بتبرير لذلك التحول بعد تباشير بالانفراج للشعب الأفغاني.
على النقيض من ذلك فإن الأخبار الواردة من قندهار تقول إن زراعة الأفيون ازدهرت مقارنة بالسنوات الفائتة على الرغم من ادّعاء حكومة طالبان أنها سوف تمنع زراعة المواد المخدرة من الأفيون والهيروين اللذين كانت أفغانستان أكبر دولة منتجة لهما في العالم، وأنها ترفض وتحارب تحويل أفغانستان إلى دولة منتجة للمخدرات، غير أن التقارير تقول إن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة وحالة الجفاف ساهمت في انتشار وتمدُّد تلك الزراعة.
وعلى الرغم من حالة الحرب فإن الأوضاع الاقتصادية للبعض كانت مزدهرة بسبب وجود شركات أجنبية كثيرة في البلاد، ولأن الموظفين الحكوميين كانوا يتقاضون أجورهم بشكل مستمر كما كانت المؤسسة العسكرية تستقطب كثيراً من الشبان وتغدق في أجورهم، من ناحية أخرى كانت المنتجات تتّسم بالوفرة لأصحاب الأموال ممن لم تطلهم ويلات الحرب.
غير أن الأوضاع اليوم تنذر بسنوات قحط وجفاف بعد تغير الأحوال وتبدلها، إذ إن سقوط الحكومة رافقه سقوط مؤسسات الدولة وبقاء الموظفين من دون فرص عمل أو انخفاض أجور من بقي في عمله بنسب كبيرة، وارتفاع نسبة التضخم وارتفاع الأسعار بشكل كبير في الشهور الماضية، وعدم وجود مصادر دخل أخرى قادرة على تدوير العجلة الاقتصادية مجدداً وسد العجز، الأمر الذي يكشف مقدرات حكومة طالبان الحقيقية وعدم مقدرتها على إدارة البلاد.
كل ذلك تسبب بخيبة أمل كبيرة لمن عوّل على الوعود التي قطعتها الحركة في بداية تثبيت أقدامها، زاد ذلك رفضُ الشعوب والحكومات العربية والمسلمة للغزو الأمريكي فانفرجت أساريرهم للانسحاب الأمريكي وعودة أفغانستان ليد أبنائها، ولو غيّر سقوط الحكومة الأفغانية كثيراً من المعطيات فإن ذلك لم يمنع حالة الأمل بالتغيير الذي وعدت به حركة طالبان الشعب الأفغاني والعالم، إلا أن تلك الآمال بدأت تتبخر مع الوقت بعد التراجع الذي بدأ يظهر عن القرارات، إذ بدأت حكومة طالبان بفرض قراراتها حتى في ما يخصّ اللباس أو طقوس الحياة اليومية الاعتيادية أو التفاصيل الشخصية، بما يتناسب وفكرتهم عن الشريعة ما جعل من رحّبوا بتسلُّمهم السلطة وقرروا دعمهم يعيدون النظر في تلك الفكرة.
لا تختلف الوعود التي قطعتها حكومة حركة طالبان بعد وصولها إلى سدة الحكم عن الوعود الانتخابية الطنانة التي تطلقها أي حكومة لتخدير الشعوب التي تحكمها وتنتظر منها تطمينات معينة، فتمنحهم إياها مستغلة الفترة بأن توطّد أركان حكمها في الداخل والخارج ثم تلمّع صورتها، وفي النهاية تبدأ الكشف عن وجهها الحقيقي بحجج مختلفة بسبب تغير الظرف العامّ والمناخ السياسي، وربما من دون حجج ومن دون أن تكلّف نفسها عناء التبرير لمن انتظر منها تحقُّق وعود التغيير أو رجاحة كفتها على كفة الاستعمار الغربي.
الحكومات تدفع ثمن تجهيل شعوبها عاجلاً أم آجلاً، ولا يمكن أن يستمر الشعب بأن يكون أداة تستخدمها السلطة، ولا يمكن أن يتخيل العقل البشري أن الإنسان مالك العقل قد يكون مطواعاً وليِّناً إلى ما لا نهاية، فحالة الصمت والتجاهل التي تستخدمها طالبان اليوم بعدم توضيح مبررات أفعالها أو حتى عدم طمأنة شعبها الذي ينتظر منها تفسيراً كي يتلافى الشعور بالخذلان، وحتى عدم تقديم إيضاح لحكومات الدول الصديقة، قد يضعها بين كفَّي كماشة، وقد تُضطرّ في النهاية إلى مواجهة طوفان داخلي من دون التمكن من صده ومقاومته.
لقد أنهكت الحروب أفغانستان نحو أربعين عاماً متتالية، لكن المرحلة المقبلة لا تبدو أكثر إشراقاً من سابقاتها، بعد تبيُّن ملامح المرحلة الجديدة التي يبدو أن البلاد ذاهبة باتجاهها، فالنتائج المحتمَلة للسياسات الحالية قد لا تقلّ كارثية عمَّا خسرته البلاد من ضحايا حقيقيين من رجال ونساء وأطفال ممن قضوا في الحرب.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.