عاش همام حياته في مدينة الزبداني ودرس في جامعة دمشق، وفي عام 2011، ومع اشتداد الثورة السورية على نظام بشار الأسد المنهار، غادر سوريا ناجياً بنفسه وعائلته من بطش أجهزة النظام الأمنية، التي كان مطلوباً لأحد فروعها. وبعد عشر سنوات، عاد همام مجدداً إلى حلب وحماة وحمص والشام، وأخيراً إلى منزله في الزبداني.
في هذه المقابلة، حاولنا تسجيل الانطباعات والملاحظات الصحفية لهمام سعدة بوصفه مراسلاً لقناة TRT عربي، والشخصية بوصفه شخصاً حُرِم من بلاده ويعود إليها بعد عشر سنوات من الغياب.
في 7 مشاهد، تجد جانباً من الإجابات الموضوعية التي تصف الناس وأحوالهم بعد سيطرة فصائل المعارضة على المدن السورية، وتجد كثيراً من الإجابات الشخصية التي تصف مشاعر وأحوال همام.
(1)
في حلب قبل العملية بيومين
في 25 نوفمبر/تشرين الثاني، قبل يومين فقط من تحرك المعارضة السورية، وصل همام سعدة إلى مدينة أعزاز لحضور افتتاح مدينة الأمل، مشروعٍ سكني يضم 1400 وحدة سكنية. هذا المشروع الذي أنشأته هيئة الإغاثة الإنسانية (İHH) بالتعاون مع منظمة قطر الخيرية، خُصص لسكان الخيام من المهجرين السوريين.
تجوَّل همام في ريف حلب الشمالي، ومن أقرب نقطة إلى حلب قال: "(حتى بكرة بنرجع) لم نعد نسمعها في الفترة الأخيرة. نحن في يأسٍ مزمن، يأسٌ يولّد يأساً". ومع ذلك، مجاملةً للحدث دفعه صوت خفي في نفسه، لأن يختم تقريره التليفزيوني بعبارة قال فيها: "بين انسداد الأفق في حياة الخيمة وامتداده هنا فرق كبير".
لم يدرك عند مغادرته سوريا قبل يوم واحد من بدء المعارضة السورية عمليتها العسكرية أن امتداد الأمل سيكبر ويصل إلى ما لم يكن يتخيله في حينها: حلب.
(2)
"عطاء الله: حلب الحرة"
بعد ساعات من الوصول إلى إسطنبول، بدأت الأخبار تتوالى عن بدء المعارضة السورية عملياتها العسكرية باتجاه ريف حلب، وبعد أيام، سيطرت على مدينة حلب. في الوقت الذي بدأ همام فيه التحرك باتجاه سوريا لتغطية مجريات المعركة، سألته عن شعوره بتحرر المدينة، فوصفه بـ"المعجزة، شيء يتجاوز حدود الأحلام".
ومن ذات الطريق الذي دخل فيه أعزاز في ريف حلب لتغطية افتتاح مدينة لإيواء اللاجئين، لكن هذه المرة كانت الوجهة حلب المدينة، يصف همام تلك اللحظة قائلاً: "قبل عشرة أيام فقط كنت في ريف الشمال، منشغلًا بأفكار عن كيفية دعم سكان المخيمات وتجهيزهم لفصل الشتاء القارس، نتحدث عن إنشاء مدينة صغيرة تؤويهم بعيداً عن البرد والطين. ثم فجأة، يمنحك الله مدينة كاملة، يمنحك حلب! كأن القدر يفتح أبواب الأمل بشكل لم يكن ليخطر على البال. هل كنت بحاجة إلى بناء مدن صغيرة؟ لا، فقد أصبحت لديك مدينة عظيمة، مصنع الشرق الأوسط بأكمله بين يديك".
ماذا عن الناس؟ كيف كانوا وما شعورهم؟
عندما دخلت حلب لاحظتُ أن الناس بدوا مستبشرين، يحملون أملًا وتفاؤلًا رغم الصعاب. عندما تحدثت مع التجار وأصحاب المحال، شعرت بتحفظ طبيعي. لقد كانوا يعملون في ظل نظام يسيطر على جوانب حياتهم الاقتصادية والإدارية. الأموال المودَعة في بنوك النظام، والتعاملات مع مؤسساته، كل ذلك كان يفرض قيوداً على حريتهم.
ورغم ذلك، مع مرور الأيام، لاحظت تغيراً تدريجياً؛ الناس بدؤوا "يفكّون"، كما أقول، وبدؤوا يُظهرون ارتياحاً أكبر. زرت أيضاً منطقة العزيزية، التي يقطنها عدد كبير من المسيحيين. أستطيع القول إنهم كانوا أكثر ارتياحاً وانفتاحاً مقارنةً بباقي السكان. أجريتُ مقابلة مع نيافة حنا جلوف، رئيس طائفة السريان، ووصف لي كيف دخلت قوات المعارضة منطقتهم بشكل سلمي.
في تلك الفترة، كانت هناك إشاعة بأن نيافة جلوف قد يصبح محافظاً لحلب، صوّرت معه لتوضيح الأمور، فقال ببساطة: "لا، أنا لن أصبح محافظاً". لكن كلماته عن السلمية والاحترام كانت شهادة حية على تفاعل الناس بمختلف طوائفهم ومشاربهم مع الأحداث الجديدة في المدينة.
(3)
في إدلب وإلى الشام
بعد أيام من التجول في حلب وريفها، وثّق همام وفريق قناة TRT عربي الأوضاع في المدن السورية المحررة من قبضة النظام والتنظيمات الإرهابية. شملت التغطية ثلاثة مطارات كان النظام يستخدمها لقصف المدن السورية، بالإضافة إلى الأنفاق التي حفرتها التنظيمات الإرهابية في مدينة تل رفعت.
وفي تلك اللحظة، بدأت الأنظار تتجه نحو ريف حماة، حيث شهدت المعارضة السورية تقدماً متسارعاً. يقول همام: "قلت لنفسي: يجب أن أتوجه إلى حماة. ولكن عليَّ أولاً أن أذهب إلى إدلب، وعندما وصلنا إلى إدلب، كانت معارك حماة تقترب من نهايتها".
كيف كانت الأجواء في إدلب؟ ماذا قال الناس؟
إدلب، يا أخي، هي قلب الثورة. إذا كانت درعا هي المنطلق، وحمص عاصمتها، فإن إدلب كانت القلب الدافئ، الحاضنة الحقيقية للثورة ومنطلق تحرير سوريا بأكملها. الناس هنا عاشوا إحساساً فريداً بالمسؤولية، واحتضنوا الثورة بكل تفاصيلها.
كان الشعور السائد أن شيئاً عظيماً سيحدث، معركة حاسمة تقترب. المعارك كانت في أوجها، والمقاتلون في حماة يقاتلون، والكلمات التي كان الناس يرددونها تعكس حماسة غير عادية، ذكَّرتني بروح الصحابة في أصعب المعارك.
(4)
في حمص مروراً من حماة وإلى الشام
في صباح السابع من الشهر، وصلنا إلى إدلب واستقررنا في وزارة الإعلام التابعة لحكومة الإنقاذ. الهدف كان إجراء مقابلات مع المسؤولين ومتابعة المعارك الجارية في حماة. كان الجو مشحوناً بالحماس. وفي المساء، بدأت تصل إلينا الأخبار عن تحرير شمال حماة.
عند منتصف الليل، وتحديداً في الساعة الثانية صباحاً، تأكدنا من استكمال السيطرة. لم ننم طوال اليوم، إذ مضى علينا أكثر من 24 ساعة بلا راحة، حتى استسلمنا للنوم أخيراً في الساعة الثانية والنصف صباحاً.
استيقظنا نحو الخامسة فجراً على أصوات التكبيرات التي عمّت إدلب، حيث كان النصر يملأ الأرجاء، والنظام في دمشق ما زال متماسكاً. كانت تلك اللحظات مليئة بالتوتر والدهشة، كأن كل لحظة تفتح باباً جديداً من الأحداث.
ماذا عن حمص؟ بعد إدلب، توجهنا نحو حمص. لم ندخل حماة، بل تجاوزناها عبر جسر المزاريب، ووصلنا إلى حمص نحو الساعة السابعة والنصف صباحاً. لم ندرك بعد أن النظام في دمشق قد انهار، فقد انقطعت الاتصالات تماماً. لكن أجواء حمص كانت كافية لتعطينا لمحة عن التغير الكبير.
توجهت مباشرةً إلى جامع خالد بن الوليد، صورت الضريح، والتقطت مشاهد التحرير التي سبقتنا بساعات قليلة. حمص كانت مختلفة عن أي مدينة أخرى، هي بحق "تراجيديا الثورة". مدينة تحمل شجناً عميقاً، دفعت ثمناً باهظاً في مواجهة القمع، وشهدت تهجيراً جماعياً أبكى القلوب.
وقفت في ساحة الساعة، ورأيت الناس يخرجون من منازلهم مذهولين. لا مظاهرات، ولا احتفالات، فقط دهشة تسود الأجواء. كل المحال كانت مغلقة، والخدمات معطَّلة، فيما تتطلع أنظار الناس إلى السماء، كأنهم لا يصدقون ما يحدث.
من أكثر اللحظات التي أثَّرت فيّ، لقاء مع شاب في العشرينيات من عمره ركض نحو السيارة -التي تحمل نمرة مدينة إدلب- وطرق على نافذتها بحماس. فتحنا النافذة، أمسك بالسائق، واحتضنه وهو يبكي قائلاً: "سامحونا، تركناكم محاصَرين في إدلب." كانت كلماته تختصر مشاعر العجز والأمل والامتنان في آنٍ واحد.
هذا الشاب، الذي عاش محاصَراً تحت وطأة النظام، يتحدث كأنه مَدين للذين قدموا لتحريره. رأيت في وجهه تجسيداً لمعاناة السوريين، وشعرت بثقل اللحظة كأنها تختزل كل الألم والرجاء الذي عاشته إدلب طوال تلك السنوات.
(5)
على أبواب الشام
بدأنا طريقنا نحو دمشق، وعبرنا الطريق السريع بعد حمص. المشاهد قاسية: جثث لعسكريي النظام السوري ملقاة على الطريق، وملابس متناثرة، وسيارات فارهة تعود لقيادات من شبيحة النظام المنهار، وسيارات أخرى تحمل عائلات في حالة فرار. كانت دمشق تبعد نحو 190 كيلومتراً فقط، ومع ذلك، شعرت بأنها رحلة إلى عالم آخر.
عندما اقتربنا من دمشق، واجهنا ازدحاماً مرورياً خانقاً. السيارات المكتظة بالعائلات كانت تخرج من المدينة، مما أضاف شعوراً بالخوف والترقب. وبينما كنا نحاول تجاوز هذا المشهد، وقع قصف إسرائيلي قريب منَّا. كان الهلع حاضراً، ولم يكن لدينا خيار سوى الالتفاف نحو الجبال لتجنب الخطر.
في طريقنا، توقفنا عند عائلة تركب شاحنة صغيرة محمَّلة بكل ما يبدو أنه منزلها. كان واضحاً أنهم في حالة فرار. اقترب منهم أحد الشباب من المجموعة وسألهم بهدوء: "من أين أنتم؟"، ترددوا في الإجابة، فأعاد السؤال بلطف: "أنتم علويون؟"، أجابوا بخوف: "نعم". فقال لهم: "لا تخافوا. أنتم بأمان. اذهبوا إلى الساحل، والله ييسّر لكم".
مع اقترابنا من دمشق، بدأت اللافتات تدلنا على قلب المدينة: دوما، وحرستا، والقابون. كل لافتة كانت تحملني في رحلة من الذكريات والدهشة. لم أستطع تصديق أنني عدت إلى دمشق بعد كل هذه السنوات، المدينة التي تركتها وظلت تسكنني.
(6)
في الأمويين: دعوات الزوجة المستجابة
مع كل خطوة داخل دمشق، كان شعوري يتأرجح بين الخوف والدهشة. مع كل لافتة كنت أصورها كأنني أحاول تثبيت اللحظة في ذاكرتي. هذه المدينة، التي كنت يوماً مطلوباً فيها لـ"فرع فلسطين"، أصبحت الآن مفتوحة أمامي. قررت دخول دمشق عبر الطريق المألوف لديّ، مروراً بالمزرعة ثم الأمويين، كل هذا وأنا ما زلت لم أدرك أن النظام في دمشق قد سقط.
عندما وصلت إلى ساحة الأمويين، كان المشهد أكبر من أي وصف. ساحة الأمويين، رمز دمشق، أصبحت الآن شاهدة على لحظة سقوط النظام. لم تكن لحظة تحرير فقط، بل لحظة تتداخل فيها كل المشاعر.
كنت من أوائل الصحفيين الذين دخلوا دمشق في تلك اللحظة التاريخية. ورغم المشاعر الجياشة كان عليّ أن أعمل. حاولت أن أكون مهنياً بقدر الإمكان. كنت أدرك أن الصحفي ليس محايداً تماماً، لكنه يجب أن يكون هادئاً وموضوعياً في نقل الأحداث. في سوريا، لم تكن القضية مجرد حدث إنساني، بل كانت صراعاً بين الظلم والعدالة.
عندما نزلت من السيارة في ساحة الأمويين، شعرت كأن الأرض تحت قدمي لا تستطيع حمل مشاعري. رأيت السيف الدمشقي أمامي، ورئاسة الأركان، ومكتبة الأسد، وهيئة الإذاعة والتليفزيون.
لكنَّ المشهد كان بعيداً عن أي احتفالات. الناس كانوا مذهولين، عيونهم مشدودة إلى السماء، والرصاص لا يتوقف. التوتر كان يخيِّم على الأجواء، والدهشة كانت العنوان الأبرز.
استحضرتُ دعوات زوجتي المتكررة التي كانت تدعو لي أن أكون هناك في لحظة كهذه، وكنت أضحك من هذا الحلم البعيد. لكن ها أنا ذا الآن، مراسل ينقل الصورة من قلب دمشق. كانت لحظة شعرت فيها بالامتنان العميق، ولطف الله الذي حوّلني من مطارَد مطلوب إلى شاهد على لحظة تاريخية.
في الأيام الأولى، كانت دمشق مغلقة تماماً. لم يكن هناك طعام أو خدمات. قضينا اليوم الأول بلا طعام، نعيش على الماء فقط. لم تكن لدينا حتى الملابس الكافية؛ بقيت بملابسي لأربعة أيام، فأمتعتي وملابسي ظلت في غازي عنتاب. عند بداية التغطية لم نتوقع أن تصل الأمور إلى إسقاط النظام ودخول دمشق، كنا نظن أنها ستظل محصورة في شمال سوريا.
(7)
عودة إلى الجذور.. الزبداني
توجهت إلى الزبداني في زيارة خاطفة. عندما وصلت، التقيت خالتي وخالي، وتحدثت معهما حتى شعرت بالشبع من الكلمات. زرت منزلنا القديم، منزل العائلة الكبير الذي كان يضم حديقة واسعة بمساحة 1000 متر، مليئة بأنواع الأشجار والثمار. ظل المنزل قائماً رغم احتراقه بالكامل. خلال فترة معينة، استخدمه حزب الله ثكنة عسكرية، وعندما انسحبوا، أحرقوه وتركوه عارياً من كل شيء.
رغم الدمار الذي طال المدينة، كانت الزبداني لا تزال تحمل جمالها القديم. الجبال الأربعة المحيطة، وجبل الشيخ الأبيض البعيد لكنه مرئي، كلها أعادت إليّ ذكريات المكان كمصيف رائع.
غادرت الزبداني ليلة 14 من الشهر نحو الساعة 11. ورغم أن المنطقة كانت لا تزال منطقة حرب، قررنا المغادرة. أخذنا معنا عائلة جاءت من لبنان لتستعيد ابنها المصاب في حماة.
خلال رحلة العودة، وقع قصف إسرائيلي قريب من المنطقة. التقطت فيديو بالهاتف وبثثته للقناة بشكل عاجل. كان ذلك جزءاً من العمل الذي كنا نؤديه حتى في ظل الظروف الصعبة.
كانت الرحلة مليئة بمشاعر مختلطة: شعور بالامتنان لرؤية الوطن مرة أخرى، وشعور بالدعاء بأن يعود السلام والاستقرار إلى سوريا وكل بلاد المسلمين.