تعمل السلطات الألمانية على التضييق ضد المتضامنين مع القضية الفلسطينية والاتحادات الفلسطينية منذ سنوات، لكنّ هذه الحملات اشتدّت حدّتها عقب عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وما تلاها من عدوان إسرائيلي على قطاع غزة.
هذا الوضع يعيد التساؤلات حول طبيعة تعامل السلطات الألمانية مع أنصار القضية الفلسطينية، ونهجها المتّهم كل منتقد للسياسة الإسرائيلية بـ"العداء للسامية".
"صامدون رغم المنع"
بعد ستة أشهر من زيارة السفير الإسرائيلي رون بروسور إلى حيّ نويكولن الشعبي في برلين، الذي تسكنه غالبية عربية وتركية، ومطالبته بإزالة ملصقات "تحرض على العنف" وفق زعمه، ما زالت بقايا ملصقات شبكة "صامدون" عصيّة على الحظر، ومنتشرة في الحي.
في المقابل، ما زالت الحملة المشتدّة ضدّ شبكة "صامدون" وجميع المنظمات الفلسطينية والمناصرة لها في ألمانيا تشهد تصاعداً.
ووصلت حملة المنع إلى ذروتها منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي عندما جزم المستشار الألماني أولاف شولتس أمام البوندستاغ (البرلمان) بأن حكومته تقف بثبات إلى جانب إسرائيل، داعياً إلى حظر شبكة "صامدون" وأنشطة حركة حماس في ألمانيا.
لم تنتظر وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر طويلاً قبل اتخاذ قرار حظر أنشطة حماس وشبكة "صامدون"، زاعمةً أنه "لا مكان للعداء للسامية" في ألمانيا وأن المنظمتين "تخالفان قيم التعايش السلمي".
وعزت فيزر هذا القرار إلى أن حركة حماس "منظمة إرهابية (...) تدعو في مظاهرات تتخلّلها أعمال عنف إلى محو إسرائيل ومهاجمة اليهود ومرافقهم"، وإلى أن شبكة "صامدون" تنشر في هذه المظاهرات "دعاية معادية لليهود".
وواكبت هذه الحملة قرارات من طرف حكومات الولايات بحظر المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، بحجَّة وجود "خطر مباشر من أن تشهد هذه التجمعات ترديد هتافات معادية للسامية أو محرّضة على العنف وأعمال الشغب".
"أمن إسرائيل.. مصلحة عليا"
وبينما تسوق الحكومة الألمانية الحجج المذكورة للمضي قدماً في قرار الحظر، تؤكد أنَّها "لا تندرج في إطار حملة تستهدف شريحة اجتماعية بعينها".
لكنْ يرى مراقبون سياسيّون وحقوقيون أن التضييق على الفلسطينيين ومنظَّماتهم أمر ممنهج، يأتي في ظلّ سياسة حكومة برلين المبنيّة على إظهار التضامن غير المشروط مع إسرائيل.
وتصف ذلك المحامية المختصة في قانون العقوبات نادية سمّور، قائلة إن ممارسات التضييق هي تأكيد دائم لـ"عقيدة راسخة تعتبر أمن إسرائيل مصلحة ألمانيَّة عليا".
وتضيف سمّور لـTRT عربي أن المنظمات والاتحادات الفلسطينية وجميع من يتضامن مع القضية الفلسطينية "يواجِهون منذ سنوات مشكلة كبيرة، مثل حظر المظاهرات ومضايقة الناشطين وحرمان المنظمات الفنية والثقافية من الدعم المالي، الأمر الذي ازداد حدّة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول".
وعمَّا إذا كانت قرارات الحظر ومنع التظاهر ستنجح في ردع المواطنين عن شجبهم لما يتعرض له الفلسطينيون في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة، تلاحظ سمّور أن "بين الفلسطينيين والمؤدين لهم مقاومة قوية تجاه هذه القرارات".
وتؤكد أن "منع خروج المظاهرات في البداية لم يردع الناس عن الخروج إلى الشوارع، رغم إلقاء القبض على كثيرين منهم وإصابة البعض في أثناء المظاهرات".
ووفق المحامية المختصة في قانون العقوبات فإن إصرار المتضامنين على التعبير عن رأيهم "كسَر في نهاية المطاف الحظر على المظاهرات في برلين وغيرها من المدن"، مؤكدة أن "الحظر لم يكن في يوم من الأيام كافياً لكسر إرادة الناس".
من جهته يوضح رئيس المجلس الفلسطيني المركزي في ألمانيا ثائر حجو أنه من خلال متابعة مواقف الأحزاب السياسية، سواء المشاركة في الائتلاف الحكومي أو المعارِضة، يثبت بأن المنظمات والاتحادات الفلسطينية تتعرض لـ"حملة شيطنة ممنهجة".
ويرى حجو في حديثه مع TRT عربي أن "الفلسطينيين والعرب والمسلمين ومنظماتهم في ألمانيا كانوا دوماً عرضة لحملات الكراهية والتشكيك في انتمائهم إلى ألمانيا، ولكن هذه الحملات ازدادت حدة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول"، مشيراً إلى أن "جميع الأحزاب بدأت في التسابق في ما بينها (بعد طوفان الأقصى) على تقديم الولاء لإسرائيل، متجاهلة حقوق ملايين الفلسطينيين الذين يرزحون تحت الاحتلال".
"الرأي العام ميّال إلى السردية الفلسطينية"
وفي المقابل، ورغم انحياز النخب السياسية والإعلامية لإسرائيل، أصبح "المزاج الشعبي في ألمانيا ميّالاً أكثر إلى السردية الفلسطينية"، كما يؤكد حجو.
ويضيف أن "المظاهرات التي يشارك فيها حتى إسرائيليون ويهود تبيِّن عمق الفجوة بين الرأي العام الألماني والنخب السياسية حول ما يحدث في الشرق الأوسط".
وعما إذا كانت قرارات منع المظاهرات تتّسق مع القوانين المحليّة، تبيّن المحامية نادية سمّور أنه وفقاً لرأي عديد من الخبراء القانونيين "لا تعد المبرّرات التي ساقتها وزيرة الداخلية الألمانية كافية لتمرير الحظر".
وتعزو سمّور ذلك إلى أن القانون الأساسي الألماني (الدستور) "يوفر حماية واسعة لحرية التعبير"، مضيفةً أنه "لسوء الحظ لم تنصفنا المحكمة الإدارية في برلين، فيما تمكَّنا في مدن أخرى من إبطال حظر المظاهرات وانتزاع قرار بتنظيمها".
تبرير المحاكم
وتوضح المحامية أن ذلك يدل على أن محاكم ولاية برلين "جبانة ورضخت لإملاءات الحكومة".
وحول اتهامات السلطات الألمانية المتظاهرين بـ"العداء للسامية"، تقول إن هذا التبرير "ليس صحيحاً، لأن هذه التجمعات لم تشهد على الإطلاق ترديد هتافات معادية للسامية"، لافتةً إلى أن "جميع الذين شاركوا عبّروا عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني فقط".
ووصفت اتهامات العداء للساميّة بأنها "تبرير غبيّ"، مضيفة أن الحكومة تلجأ إلى مثل هذه الحجج لأنّها "تسهل المناورة بهذا المصطلح في ألمانيا لإسكات الحركة الاحتجاجية على جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل".
ولا يقتصر الاستهجان من هذه الهجمة على العارفين بالقانون والاتحادات الفلسطينية والعربية والإسلامية المؤيدة للفلسطينيّين، بل يشمل أيضاً الرأي العام في دول أوروبية مجاورة تتساءل صحافتها عما إذا كانت ألمانيا تدرك مدى خطورة التضامن الألماني غير المشروط مع إسرائيل.
ويتساءل صناع الرأي في هذه الدول عما إذا كانت النخب السياسية الألمانية تعرف أن إحكام معايير الرقابة وإحكام القبضة على النقاش السياسي يؤشر على أن الديمقراطية وحرية التعبير تعيشان أوقاتاً صعبة في هذا البلد.
وعنونت الصحيفة الدنماركية إنفورماسيون (Information) مقال رأي لمراسلتها في برلين نينا برانر، بعنوان "التضامن مع إسرائيل.. إلى أين سيقود ألمانيا؟".
وترى الصحفيّة برانر في حديثها مع TRT عربي أن على الحكومة الألمانية عدم الذهاب بعيداً في التضامن مع إسرائيل وفي التضييق على الفلسطينيين، قائلة إن "على الحكومة الألمانية التفكير إلى أي حدّ هي مستعدة لتقديم دعم غير مسبوق لإسرائيل وحكومة نتنياهو اليمينية القومية".
وتلفت إلى أن "حكومة برلين إذا لم تفعل ذلك فإن سترة التقييد ستضيق أكثر"، في إشارة منها إلى أن التضييق على أنشطة الفلسطينيين ومناصريهم في ألمانيا سيؤدي إلى تضييق الحريات على جميع المواطنين في آخر المطاف.