حراك سياسيّ لافت شهدته ساحة الأزمة السودانية في الأيام الماضية، ففي أقلّ من أسبوع استضافت كل من أديس أبابا والقاهرة اجتماعين منفصلين سعياً لإيجاد حلّ للقتال المستمر في السودان منذ منتصف أبريل/نيسان الماضي.
لكنّ رغبات المتحدثين في هذين الاجتماعين في إيجاد حلٍّ سلميّ للأزمة لم تَحُلْ دون استمرار الاشتباكات الضارية بين الجيش السوداني و"قوات الدعم السريع" التي تركّزت في العاصمة الخرطوم.
قمّة "الإيغاد".. بين رفض الجيش وترحيب "الدعم السريع"
منذ اندلاع شرارة الأزمة السودانية تكاثرت المبادرات الساعية إلى وقف التصعيد ودفع الطرفين إلى التفاوض بحثاً عن حلول سلميّة، حيث استضافت مدينة جدّة السعودية جولات مباحثات متعددة بين طرفَي الصراع السوداني أسفرت عن مجموعة من الهدنات الهشّة.
"زحمة المبادرات" هذه تؤكّد من جهة أنّ السودان يواجه أزمة حقيقية، وأنّ البلاد دخلت في نفق حذَّر منه الجميع، وفقاً للصحفي والمحلل السياسي المتابع لشؤون الاتحاد الإفريقي، إبراهيم صالح. ومن جهة أخرى، تشير هذه المبادرات إلى المخاوف من تحول الأزمة إلى مهدِّد أمني للمنطقة، "ومن هنا تأتي أهمية مبادرتي الإيغاد ودول الجوار"، يقول صالح.
وفي إفادته لـTRT عربي يرى صالح، المقيم في أديس أبابا، أنّ أهميّة مبادرة دول الإيغاد (الهيئة الحكومية لتنمية دول شرق إفريقيا) تنطلق من اعتبار أنّ السودان يعدّ "إحدى الدول المهمّة في منظومة الإيغاد، ولذا فإنّ الإيغاد كمنظمة فرعية إقليمية منوط بها أولاً البحث عن حلول لمثل هذه الأزمات التي قد تمرُّ بها أيٌّ من دولها الثماني، كما أنّ هذه المبادرة تزداد أهميّة بالنظر إلى تنسيقها مع الاتحاد الإفريقي كمنظومة إفريقية عامّة".
أما المحاور الرئيسية لهذه المبادرة، يقول صالح، فهي تبدأ من "وقف إطلاق نار دائم وفتح مسارات آمنة لإيصال المساعدات كقضايا رئيسية وملحّة، ومن ثم الانتقال إلى مرحلة عملية سياسية جامعة لكل الأطراف".
وشهدت العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في 10 يوليو/تموز الحالي، قمّة لرباعية "الإيغاد" المنوط بها معالجة الأزمة السودانية، حيث دعا البيان الختامي إلى وقف إطلاق النار وإلى عقد قمّة إقليمية لبحث نشر قوات في السودان لحماية المدنيين.
وقاطع وفد الجيش السوداني هذه القمّة اعتراضاً على الرئاسة الكينية للّجنة، حيث ترى الخرطوم أنّ نيروبي منحازة إلى "الدعم السريع"، وتطالب بتعيين رئيس للّجنة من دولة أخرى، في حين عبّر بيان صادر عن الحكومة السودانية عن الرفض القاطع لنشر أيّ قوات أجنبية في البلاد، مؤكداً أنّه سيعدّها "قوات معتدية".
في المقابل أصدرت "قوات الدعم السريع" بياناً تضمّن "وافر الشكر والتقدير للّجنة الرباعية لاهتمامها المتعاظم بالأزمة السودانيّة"، وكان من اللافت أنّه لم يتطرق إلى الدعوة إلى نشر قوات إفريقيّة في السودان.
مؤتمر جوار السودان والمخاوف الإقليمية
بفاصل لم يمتد لأكثر من بضعة أيام عن قمّة "الإيغاد" احتضنت القاهرة قمّة دول جوار السودان في 13 يوليو/تموز الحالي، وشهدت حضوراً رفيع المستوى من جيران السودان كافة.
ويَرى إبراهيم صالح في حديثه لـTRT عربي أنّ "مبادرة القاهرة تأتي من نظرة مصر والدول التي تساندها في أنّ تعاطي بعض أطراف الرباعية مع أزمة السودان يعقّد الأوضاع ولا يعالجها".
وأضاف أنّ "التعاطي المذكور يُضعف دور المؤسسة العسكرية التي ترى فيها القاهرة الضمان لاستقرار الوضع في السودان، في حين أنّ وضع (الدعم السريع) كقوة موازية للجيش يهدّد أمن السودان واستقراره، ما سينعكس على أمن واستقرار مصر والدول المجاورة للسودان".
من جانبه يرى المحلل السياسي المختص في شؤون القرن الإفريقي، شفا عمر، أنّ مبادرة القاهرة كانت مختلفة عن نظيرتها التي ترعاها "الإيغاد"، "في النظرة إليها من طرفَي الصراع، حيث لم يعدّاها تهديداً مباشراً لمصالحهما"، على عكس التوتّر الشديد بين الجيش السوداني والرئاسة الكينية لمبادرة "الإيغاد".
ويضيف عمر في حديثه مع TRT عربي، أنّ الإعلان الختامي لقمّة دول الجوار السوداني، "على الرغم من أهميّته، لم يتطرّق إلى القضايا الأساسية المعقّدة، بدلاً من ذلك، كانت النتائج عامّة وأكثر نظريّة من تقديمها خطوة ملموسة نحو حلّ المشكلة".
ويمضي عمر قائلاً إنّ القمّة "مع ذلك، كانت قادرة على تأكيد الاحترام الكامل للسودان كدولة ذات سيادة ووحدة، وأهميّة عدم التدخّل في شؤونها الداخلية، كما أنّها شددت على الحاجة إلى عدم تدخّل الأطراف الخارجية في الأزمة، وأهميّة الحفاظ على الدولة السودانية ومؤسساتها من التفكك والفوضى، إلى جانب إعرابها عن قلقها بشأن الوضع الإنساني المتدهور في السودان وضرورة تسهيل تقديم المساعدات الإنسانية".
وعبّرت الخارجية السودانية عن "عميق ترحيبها" بمخرجات قمّة القاهرة، مؤكّدة استعدادها للتعاون مع الآليّة الوزارية التي قررت القِمّة تشكيلها.
ورغم ترحيب "قوات الدعم السريع" بالبيان الختامي لقمّة دول جوار السودان، يصف صالح تفاعل هذه القوات والقوى السياسية الداعمة لها مع مبادرة القاهرة بأنّه لم "يكن بذات مستوى دعمهم لمبادرة الإيغاد والمبادرة السعودية-الأمريكية".
وهكذا يعزو صالح تفاعلها مع المبادرة المصرية إلى محاولتها كسب "أي جهد يتّجه نحو الحل السياسي ويُخرجهم من استمرار الوضع العسكري الذي يتّجه لمصلحة الجيش وانحسار (الدعم السريع)، وهو ما يُقلق القوى السياسية الداعمة له ويجعلها أمام تحدٍّ سياسي قادم ربما يُخرجها من الساحة السياسية".
هل تُخرج هذه المبادرات السودان من نفق الأزمة؟
التصعيد الميداني على الأرض استمرّ خلال الأيام الماضية ولم تُقنع هذه المؤتمرات طرفَي الصراع بإسكات البنادق، حيث حلّقت طائرات الجيش السوداني في سماء الخرطوم، في حين انطلقت مضادات الطيران التابعة لـ"الدعم السريع"، وشهدت منطقة أم درمان معارك ضارية خلال الأيام الماضية.
وإزاء هذا الواقع يزداد إلحاح التساؤل عن قدرة هذه المبادرات على إحداث اختراق في جدار الأزمة، وهو ما يبدو أنّ إبراهيم صالح متفائلاً حياله، موضحاً أنّه يعتقد "أنّ المبادرتين تتقاطعان بصورة ما، فمن حيث تكوينهما نجد أنّ دول الجوار السوداني جزء منها أعضاء في الإيغاد والعكس".
هذا التقاطع "يزيد بلا شك من فرص الحل"، وفقاً لصالح الذي يضيف أنّ "مبادرة القاهرة جاءت لتعالج قصور مبادرة الإيغاد، والدفع باتجاه مطالب الجيش الذي يرى أنّه الممثل الرئيسي للدولة السودانية التي تشهد أزمة عسكرية وسياسية".
ويعتقد صالح أنّ مبادرة الإيغاد "ارتكبت الخطأ الأكبر بإسناد رئاسة الرباعية للرئيس الكيني، وهو ما اعترض عليه الوفد الممثل للجيش في بداية التعيين، ودفعه إلى التغيّب عن اجتماع القمّة الرباعية على الرغم من وجوده في أديس أبابا، عندما علم بأنّ اعتراضه لم يجد أيّ اعتبار من الإيغاد، قبل أن تُضاف إلى ذلك تصريحات الرئيس الكيني ورئيس الوزراء الإثيوبي، وكلها كانت مصوَّبة نحو الجيش".
كان الرئيس الكيني ويليام روتو، قد قال في كلمة له خلال قمّة أديس أبابا، إنّ الوضع في السودان يتطلب ما وصفها بقيادة جديدة بشكل عاجل، تكون قادرة على إخراج السودان من الكارثة الإنسانية التي يتّجه نحوها، في حين صرّح رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بأنّ هناك فراغاً في قيادة الدولة السودانية، داعياً إلى فرض منطقة حظر جوي.
في حين يرى شفا عمر أنّ الدعوة إلى التدخّل العسكري في السودان، التي اعترض عليها الجيش السوداني، "غير واردة، بخلاف الحالة الصومالية على سبيل المثال، حيث إنّ أزمة السودان تختلف بكل المقاييس عن القضايا التي جرت الموافقة على التدخل العسكري فيها، كما أن عملية الموافقة على هذا القرار تستغرق الكثير من الوقت والجهد، والأزمة في السودان لا تحتمل ذلك".