تابعنا
تشهد فرنسا وللمرة الأولى منذ جائحة "كوفيد-19" أزمة حقيقية بعجزها عن سداد الدين الخارجي الذي بلغ 111% من حجم إنتاجها القومي، ما يجعلها بحاجة إلى خطة سريعة قبل انتهاء ولاية الرئيس إيمانويل ماكرون، في عام 2027.

عانت اليونان في عام 2015 عجزاً عن سداد ديونها، وتأخرت عن دفع مبلغ 1.6 مليار يورو لصندوق النقد الدولي للمرة الأولى في تاريخها، جرّاء مشكلات هيكلية بعد اتّباع الحكومة اليونانية سياسات مالية ونقدية توسعية، وبدلاً من تعزيز الاقتصاد عايش اليونانيون ارتفاع معدلات التضخم، وارتفاع العجز المالي والتجاري وانخفاض معدلات النمو وأزمات أسعار الصرف، وهو ما استدعى تدخل الاتحاد الأوروبي بصيغة خطط إنقاذ في مقابل تطبيق خطط اقتصادية حازمة.

فرنسا على أعتاب أزمة اقتصادية.. وتخوفات من خطط الإنقاذ

تردّد بعض دول الشمال في إسعاف اليونان تخوفاً من أن تتأثر بأزمتها بعد أن كانت عاملاً في تقوية اقتصاد الاتحاد الأوروبي، بتخفيض معدل البطالة الوسطيّ فيها، بسبب ما تتمتع به أسواق العمل في شمال منطقة اليورو بظروف أفضل من جنوبها، لكنها قدمت في النهاية خطط إنقاذ كان لها الفضل في خروج اليونان من أزمتها، بعد أن بقيت سنوات تحت الرقابة المكثفة للتحقق من تطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي.

وفي حالة مشابهة، يحذّر خبراء من ارتفاع حدّة الركود الاقتصادي في فرنسا، كونها تعاني أصلاً من تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا ومن تبعات الركود الاقتصادي بعد جائحة كورونا، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار الطاقة وتراجع القدرة الشرائية في مختلف بلدان التكتّل، وهو ما قد تنجم عنه عواقب اقتصادية قد تهدد مجمل دول أوروبا.

فرنسا في سباق تخفيض الديون

تشهد فرنسا وللمرة الأولى منذ جائحة "كوفيد-19" أزمة حقيقية بعجزها عن سداد الدين الخارجي الذي بلغ 111% من حجم إنتاجها القومي، ما يجعلها بحاجة إلى خطة سريعة قبل انتهاء ولاية الرئيس إيمانويل ماكرون، في عام 2027.

وفي هذا الصدد، قال وزير الاقتصاد والمال الفرنسي برونو لومير، في أثناء عرضه خريطة الطريق الجديدة للمالية العامة للسنوات المقبلة: "نريد تسريع خفض ديون فرنسا"، محذراً من أن "صدقية فرنسا على الصعيد الأوروبي على المحكّ"، حسب ما نقلته وكالة "فرانس برس" في 20 نيسان/أبريل الماضي.

وفي تقرير وكالة التصنيف الائتماني "ستاندرد آند بورز" الذي أصدرته في بداية يونيو/حزيران (وهي إحدى المؤسسات التي تُصدر تقييمات تتعلق بالجدارة الائتمانية، أي قدرة الدولة على سداد الديون، وذلك لتزويد المستثمرين بمعلومات دقيقة عن المناخ الاستثماري)، أبقت على درجة فرنسا الائتمانية نفسها، معتمدةً على خطط الحكومة لتخفيض العجز التي عرضها ماكرون للتعجيل بالإصلاح الاقتصادي.

لكنّ التقييم حذّر من أن الأوضاع محفوفة بالمخاطر، وذلك على خلفية التوتر الاجتماعي القائم بسبب تعديل نظام التقاعد الذي تبنته الحكومة الفرنسية، وينصّ على رفع السن القانونية للتقاعد من 62 إلى 64، وهو ما أثار موجة من الاحتجاجات الشعبية والإضرابات العمالية ما زالت قائمة حتى الوقت الراهن.

توترات اجتماعية وفُرقة سياسية

أوضحت وكالة "فيتش"، (وهي إحدى الشركات الرائدة في مجال المعلومات المالية، وتُصدر معلومات تتعلق بملاءة الدولة المالية، وقابلية مناخها الاقتصادي لاستيعاب الاستثمار)، أن هناك توقعات بخفض التقييم الائتماني لفرنسا في المستقبل بسبب التوتر الاجتماعي، لأن أزمة سن التقاعد سببت توتراً اجتماعياً وإضرابات في أنحاء البلاد.

ومع ذلك، أتى رد فرنسا على إعلان "فيتش" يحمل بعض التفاؤل، إذ قال وزير المال الفرنسي برونو لومير، لوكالة الأنباء الفرنسية، إن فرنسا ستواصل "تمرير الإصلاحات الهيكلية". مضيفاً: "أعتقد أن الحقائق تبطل تقييم وكالة (فيتش)، نحن قادرون على تمرير إصلاحات هيكلية للبلاد"، وذكر خصوصاً إصلاح التأمين ضد البطالة ونظام التقاعد الذي لم يحظَ بشعبية.

هذا وتعد درجة "AA" من أعلى فئات سلم التصنيف من حيث القدرة على سداد الديون. وفي أوروبا يعد تصنيف ألمانيا وهولندا (AAA) الأعلى بين الدول، وقد خسرته فرنسا في 2012.

ووفقاً لخبراء فإن التوترات الاجتماعية الحاصلة في فرنسا ليست السبب الوحيد الذي يدعو إلى التخوف من المستقبل الائتماني للبلاد، ذلك أن الانقسام البرلماني وغياب الأغلبية في القرارات التي تحتاج إلى تصويت قد يؤديان إلى تعقيد في تنفيذ السياسات وبالتالي إلى تشديد شروط التمويل.

وأوضحت الوكالة أن "الانقسام السياسي يضفي حالة من عدم اليقين على قدرة الحكومة على وضع سياسات تُفضي إلى النمو الاقتصادي وإعادة التوازن".

وحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية، بلغ الدين الحكومي 2.95 تريليون يورو في نهاية العام الماضي، أي ما يعادل 111.6% من الناتج المحلي الإجمالي.

"المركزي الأوروبي" يرفع سعر الفائدة

توقع خبراء ارتفاع تكاليف سداد الديون بعد رفع البنك المركزي الأوروبي سعر الفائدة، الأمر الذي سبَّب تخوفاً متزايداً من عدم قدرة فرنسا على السداد، ما قد يدفعها إلى اتخاذ إجراءات لإصلاح الاقتصاد على حساب المستوى المعيشي للمواطن الفرنسي.

وفي هذا السياق قال برونو لومير: "يجب علينا بالتأكيد تقليص عبء الديون، الخيار واضح: إما خفض الديون الآن وإما فرض ضرائب غداً".

ويشير الكثير من التقارير إلى أن فرنسا تواجه أزمة لم تواجه مثلها منذ الكساد الكبير أو "الانهيار الكبير"، أي منذ عام 1929 حتى عام 1933، ما سيضطر فرنسا إلى الاختيار بين تخفيض الإنفاق والمجازفة بفرض ضرائب جديدة على كاهل دافعي الضرائب فتتسبب في عواقب اجتماعية في ظل توتر ما زال سائداً بين المواطن والحكومة على خلفية قانون سن التقاعد المثير للجدل.

تتوقع الحكومة ارتفاع كلفة خدمة الدين بمقدار عشرة مليارات يورو بحلول 2027، وذلك بسبب دين زاد منذ الأزمة الصحية والارتفاع المباغت في أسعار الفائدة، وقال غبريال أتال، وزير الحسابات العامة: "في بعض القطاعات نُفْرط في الإنفاق"، وذكر خصوصاً السكن. وفي 2027، سينخفض الإنفاق إلى 53.5% من إجمالي الناتج المحلي في مقابل 57.5% حالياً.

إصلاح سريع تخوفاً من نموذج اليونان

تعرضت اليونان لوضع اقتصادي مشابه إلى حد ما في السابق أجبرها على طلب العون من البنك المركزي الأوروبي، إذ شهدت اليونان موجات من خفض معاشات التقاعد، وقيود الإنفاق، والزيادات الضريبية والقيود المصرفية بعد أن اضطرت إلى السعي للحصول على أول خطة إنقاذ لها في عام 2010، وانكمش الاقتصاد بنسبة 25% خلال عمليات الإنقاذ.

وخضع الأداء الاقتصادي لليونان وسياساتها للمراقبة عن كثب بموجب إطار العمل منذ عام 2018، لضمان تنفيذ الإصلاحات التي تعهدت بها بموجب ثلاث عمليات إنقاذ دولية بلغ مجموعها أكثر من 260 مليار يورو (261 مليار دولار) من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي بين عامي 2010 و 2015.

التخوفات من أن تواجه فرنسا مصير اليونان، وإنْ حملت في طياتها بعض المبالغة، لكنها تبدو قريبة إلى التحقق في حال استمرت فرنسا في المبالغة بإمكاناتها، على الرغم من التحذيرات المستمرة وضرورة وجود إصلاح مالي يناسب الأداء الاقتصادي المتوقَّع لدولة بحجم فرنسا في الاتحاد الأوروبي، مع مراعاة مواءمة خطط الإصلاح مستوى المواطن الفرنسي المعيشي، كي لا تُضطر إلى خفض المعاشات بعد تعديل سن التقاعد، أو فرض زيادات ضريبية وقيود مصرفية فيما إذا اضطرت إلى السعي للحصول على قروض للمساعدة في حل أزمتها.

TRT عربي