أثار تكليف الرئيس الأمريكي جو بايدن جيش بلاده قيادة مهمة طارئة لإنشاء رصيف بحري مؤقت قبالة سواحل قطاع غزة كثيراً من التساؤلات حول الأهداف والمخاطر التي يمكن قراءتها مع دخول الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها السادس.
وحسب بايدن فإنّ إنشاء الميناء المؤقت يهدف إلى إيصال مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة بحراً، وإقامة ملاجئ مؤقتة ومستشفيات عائمة لعلاج جرحى الحرب، مؤكداً أنه لن تكون على الأرض قوات أمريكية، وذلك بعد أيام قليلة من بدء الولايات المتحدة إسقاط مساعدات جواً.
ومن المتوقع أن يستغرق إنشاء الرصيف العائم مدة زمنية قد تصل إلى شهرين لتشغيله بكامل طاقته، وفق وزارة الدفاع الأمريكية التي قالت إنّ الأمر سيتطلب الاستعانة بألف عسكري أمريكي لإكماله.
وذكر الرئيس الأمريكي أن إسرائيل ستتولى مهمة تأمين الميناء المؤقت، فيما قال وزير الجيش الإسرائيلي يوآف غالانت -من أمام شواطئ غزة- إن إقامة هذا الرصيف البحري ستسهم في "تقويض سلطة حماس".
ممر بحري
وبموازاة ذلك أعلنت المفوضية الأوروبية وقبرص والإمارات والولايات المتحدة وبريطانيا في بيان مشترك عزمها تدشين ممر بحري لإيصال كميات إضافية من المساعدات إلى غزة، مشيرة إلى أنه سيكون مكملاً للمسارات البرية والجوية التي تشمل مصر والأردن.
ووفق تقارير صحفية فإنّ الممر ينطلق من جنوب قبرص اليونانية، حيث ترسو سفن المساعدات وتخضع لتفتيش دقيق تشرف عليه إسرائيل، ثم تسلك طريقاً نحو الميناء العائم، وهو عبارة عن منصة في البحر الأبيض المتوسط.
ولا يُعرَف بعدُ الموقع الدقيق لمكان الرصيف البحري، في وقت تشير فيه تقديرات إلى أنه سيبنى على بُعد نحو 600 متر قبالة شواطئ غزة بما يتيح لسفن الشحن الاقتراب منه، ومن ثم إفراغ حمولتها لتنقل إلى غزة عبر جسرين بطول 550 متراً لكل منهما، وسط تضارب الأنباء حول كيفية توفير ممرات آمنة لتوزيع المساعدات بعد إيصالها وأمن الشاحنات والجهات التي ستتولى توزيعها.
ونقلت شبكة سي إن إن الأمريكية عن مسؤول قطري قوله إنهم يستثمرون 60 مليون دولار في مبادرة الممر البحري، بما في ذلك نقل المساعدات من الرصيف إلى الشاطئ وتسليمها للتوزيع.
الأمم المتحدة كان لها موقف صارم تجاه هذه التحركات، إذ ندد مقررها الخاص المعني بالحق في الغذاء مايكل فخري بالخطة الأمريكية بشأن الميناء العائم، واصفاً إياها بـ"الاقتراح الخبيث"، مبيناً أن الدول عادة ما تستخدم عمليات الإنزال الجوي والأرصفة البحرية فقط لإيصال المساعدات إلى "أراضي العدوّ".
مخاطر سياسية وقانونية وأمنية
يصف أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الفلسطينية الدكتور حسن أيوب القرار الأمريكي بالمتأخر جداً، وأنه لن يغير معادلة حرب التجويع التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزة، مضيفاً أنه يسلم بالشروط الإسرائيلية التي تقوم على تحكمها مباشرة أو من خلال حلفائها بما يمكن أن يدخل إلى غزة من مواد إغاثية وطبية وغيرها.
وفي حديثه مع TRT عربي يتساءل أيوب عن آليات عمل المرفأ العسكري من حيث توقيته -بعد شهرين من الآن- الذي يزيد عدم نجاعته، ومن سيتولى الأمن فيه، وما علاقة الفلسطينيين في غزة به، وسواها من الاعتبارات اللوجستية، مؤكداً أن الفكرة تنطوي على مخاطر سياسية وقانونية وأمنية.
ويلفت إلى أن "خطة واشنطن تعكس إفلاساً أخلاقياً بعد نزعتها غير الأخلاقية تجاه الفلسطينيين في سماحها على امتداد 6 أشهُر بذبح الفلسطينيين وتصدّيها لكل المحاولات الدولية لكبح حرب الإبادة ضدهم"، مشيراً إلى أنها "تحاول الآن التطهر من هذه الجرائم بثمن بخس، ينطوي على إمعان في إذلال الفلسطينيين، وتحويلهم إلى متسولين للحياة والإغاثة".
وسياسياً، يعتقد أيوب أن إقامة هذا المرفأ تعني التخلي تماماً عن التصدي للمسألة الأكثر أهمية وهي وقف العدوان، وبما يتيح للمساعدات أن تتدفق للسكان من دون عوائق وعبر المنظمات الدولية ومن خلال المؤسسات الفلسطينية الموجودة في القطاع.
ويضيف أستاذ العلوم السياسية أن "هذه الخطوة تأتي بالتنسيق مع إسرائيل، ومشروطة بعدم السماح لأي جهة فلسطينية رسمية بالإشراف على توزيع المساعدات، واستبدال تشكيلات مخترعة من إسرائيل بها".
وقانونياً، تُعتبر -وفق أيوب- الخطوة التفافاً صريحاً على القانون الدولي والإنساني المتعلق بحماية المدنيين في زمن الحرب، وتجاوز فظ وخطير لقرارات محكمة العدل الدولية ذات العلاقة بالإبادة الجماعية في غزة.
ويرى أيوب أن الخطة أتت لتكرس إصرار الحكومة الإسرائيلية على التخلص من الأونروا وإخراجها من القطاع بغية تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، "وربما العمل من وراء ظهر المجتمع الدولي على تهجير الفلسطينيين من خلال المرفأ إلى أوروبا، وهو ما يعززه وجود خطة أوروبية قيد التنفيذ لإنشاء ممر بحري من قبرص إلى غزة".
أما من الناحية الأمنية فيلفت أيوب إلى أن "إسرائيل لوحظ بأنها تعمل على خلق حالة من الفوضى وتشكيل العصابات المسلحة لتخلق فراغاً أمنياً".
ويوضح أن إقامة المرفأ وتمرير المساعدات من خلاله سيتطلبان جهات محلية تعمل على توزيعه، خصوصاً مع استهداف إسرائيل كوادر الشرطة وتدمير المؤسسات العامة وقتل عشرات الموظفين من الأونروا وعدم تجديد تصاريح عمل موظفي المنظمات الأممية.
ويلفت أيوب إلى أن "الفراغ الأمني والمؤسسي سيقود إلى إنشاء أجسام محلية شبيهة بروابط القرى، ومعها ادعاء وجود تمثيل فلسطيني"، مؤكداً أن وجود المرفأ العسكري الأمريكي يصبّ في طاحونة هذه الاستراتيجية الإسرائيلية.
التحكم بحياة المدنيين
بدوره يقول الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني أحمد الحيلة إن إعلان بايدن يُعَدّ خطاباً انتخابياً موجَّهاً إلى شرائح من الشعب الأمريكي الغاضبة من أداء إدارته المتورطة في جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، عبر إمدادها لجيش الاحتلال بالسلاح والغطاء السياسي.
ويضيف الحيلة لـTRT عربي أن موقف بايدن محاولة لكسب ودّ تلك الشرائح مثل فئة الشباب، والتقدميين الليبراليين، والأقليات المسلمة والعربية، قُبيل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
ويشير إلى أن هذا الموقف أيضاً محاولة لتبييض صفحته وتحسين صورته "الملطخة بدماء آلاف الأطفال والمدنيين العزّل الذين قتلهم الاحتلال بسلاح أمريكي".
ويلفت المحلل السياسي إلى أن الرصيف العائم يحتاج إلى 60 يوماً، وهي مدة طويلة في مواجهة انتشار ظاهرة الجوع والموت جوعاً في الفئات الضعيفة مثل الأطفال وكبار السن والمرضى والمصابين الذين تجاوز عددهم 70 ألفاً.
وتبدو هذه الخطوة -وفق الحيلة- متأخرة وغير عملية أمام إمكانية وسهولة فتح الممرات البرية الموجودة والمؤهلة لاستقبال المساعدات الغذائية والطبية مثل معبرَي رفح وكرم أبو سالم مع الحدود المصرية، إضافة إلى معبرَي إيريز والمنطار مع حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 الواقعة تحت إدارة الاحتلال مباشرة.
ويرى أن هذه الخطوة يُراد بها التحكم والسيطرة أمريكياً وإسرائيلياً بحياة المدنيين وابتزازهم والضغط عليهم لتغيير قناعاتهم الوطنية، باستغلال الكارثة الإنسانية المتفاقمة، وهي تشبه لعبة العصا والجزرة لإعادة هندسة المجتمع الفلسطيني بعد محاولة إلغاء دور حكومة غزة والمؤسسات الوطنية الإدارية.
ولا يستبعد أن يستغل الاحتلال الممر البحري الذي يشرف عليه أمنياً لترحيل الفلسطينيين إلى خارج القطاع بذرائع إنسانية وبحجة أن غزة لم تعُد صالحة للحياة بعد أن دمّرها لإجبار الفلسطينيين على الهجرة.
ويؤكد الحيلة أنه "لو كانت الإدارة الأمريكية حريصة على دماء الفلسطينيين، وترفض قتلهم أو موتهم جوعاً، لكان الأحرى بها أن توقف دعمها الاحتلال بالسلاح، وأن تُلزم فتح معبري رفح وكرم أبو سالم وغيرها باعتباره حلاً سريعاً وجاهزاً لإنقاذ الأطفال والمدنيين العزّل".
دور معبر رفح
بدوره قال الخبير في الشؤون العسكرية والاستراتيجية هشام خريسات إن "الرصيف العائم ظاهره مساعدات وباطنه هجرة طوعية إلى أوروبا".
وأوضح خريسات في مقابلة مع وكالة الأناضول أن تكلفته الأولى 35 مليون دولار، ولن يقلّ عمق الغاطس للسفن بالرصيف عن 17 متراً لاستيعاب جميع سفن المساعدات.
واعتبر الخبير الاستراتيجي أن فكرة إنشاء الميناء "ليست جديدة"، بل إنه "موضوع قديم جديد طُرح قبل 10 أعوام"، مؤكداً أن إسرائيل ستوافق الآن عليه لأجل تمرير صفقة تبادل الأسرى والهجوم البري على رفح من دون إغضاب واشنطن.
ويرى خريسات أن "بايدن قلق جداً مما سينتج عن اجتياح الجيش الإسرائيلي لرفح، ومن عدم إنهاء الكارثة الإنسانية في غزة"، لافتاً إلى أن "معبر رفح سيخرج عن الخدمة لأن إسرائيل لا تثق به، وتعتبره المدخل الرئيسي لأسلحة حماس".