تابعنا
عقدت محكمة العدل الدولية في 10 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، جلسة استماع من أربع جلسات بشأن التعذيب الذي تمارسه الحكومة في سوريا منذ 2011، بعد أن تقدمت هولندا وكندا رسمياً بطلب مشترك في يونيو/حزيران الماضي، لرفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية.

التعذيب والجوع والمرض والموت، وكل تلك التفاصيل التي تجعل السجون السورية من أبشع السجون التي عرفتها البشرية، هي سلوكيات منغمسة كلياً في منهج مؤسسات أمنية وحشية، حيث تنتفي الحقوق كلها التي أقرّتها القوانين والأعراف الدولية. حينها يتحول السجن إلى مكان للترويع والانتقام والقتل أو الموت البطيء.

ومحاولةً لإحقاق العدالة في تلك السجون، عقدت محكمة العدل الدولية في 10 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، جلسة استماع من أربع جلسات بشأن التعذيب الذي تمارسه الحكومة في سوريا منذ 2011، بعد أن تقدمت هولندا وكندا رسمياً بطلب مشترك في يونيو/حزيران الماضي، لرفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية، إيذاناً بتحريك الإجراءات القانونية في هذا السياق.

وكان من المقرّر أن تُعقد هذه الجلسات في يوليو/ تموز الماضي، حسب بيان المحكمة، ولكن أُجلت إلى أكتوبر/تشرين الأول بناءً على طلب من سوريا.

وبعد ذلك، أبلغت سوريا المحكمة، من خلال رسالة أرسلتها السفارة السورية في بروكسل، بأنّها لن تشارك في المرافعات الشفهية، ونتج عن ذلك إلغاء الجلسات الثلاث المتبقية.

رهائن الغياب

رغم قساوة الحديث عن قضية المعتقلين بالنسبة إلى عائلات الضحايا، تحاول أُمّ المعتقل أيهم غزول ومديرة "رابطة عائلات قيصر" وإحدى مؤسسيها، مريم الحلاق، أن توضح معاناة أهالي المعتقلين في انتظار أي معلومة يقينية قد تصل إليهم عن مصير أحبائهم المعتقلين في السجون السورية.

وتقول مريم لـTRT عربي، إنّ "الحديث عن المعتقلين أمر متعب وقاسٍ، لكن عندما أحكي قصة ابني أكون قد حكيت قصة شاب سوري تعرّض للتعذيب والموت مثل كثيرين من الشباب، وبالتالي أصبح الأمر رسالة وليست قصة شخصية".

اعتُقل ابن السيدة مريم مرتين خلال مشاركته في الثورة السورية، الأولى كانت في 16 فبراير/شباط 2012، وأُفرج عنه في مايو/أيار من العام نفسه، وفي المرة الثانية، اعتُقل من على مدرج جامعة دمشق بكلية طب الأسنان، حيث كان يحضّر رسالة الماجستير، في 5 نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، ووصلت إلى العائلة معلومات بأنّه قُتل تحت التعذيب بعد خمسة أيام من اعتقاله.

رحلة البحث عن حقيقة مصير أيهم استمرت 17 شهراً، حسب والدته، قبل أن تحصل على شهادة وفاة من مستشفى "تشرين العسكري" بأنّه "توفي بتوقف قلبه" بعد خمسة أيام فقط من اعتقاله، إلا أنّها لم تتسلم جثته، ولذلك، لا تزال تملك الأمل أن يكون على قيد الحياة، ما دام رهين الغياب حتى الآن.

ووفق مرافعة هولندا وكندا في 10 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، أمام المحكمة، تتحفظ الحكومة السورية على أي معلومات تتعلق بأسباب وفاة أي معتقل تُوفي في أثناء الاحتجاز أو حال دخوله المستشفى، بما في ذلك فحص الطب الشرعي والجثة ومكان الدفن.

ويدرك جميع السوريين تماماً أنه "لا إرادة دولية لإنهاء النظام السوري، ورغم ذلك قد سرَّبت هذه الدعوى الأمل مجدداً إلى نفوسهم، وأصبحوا يتابعون خطواتها"، وفق السيدة مريم، التي تعد بدء إجراءات الدعوى في لاهاي فرصةً جديدة ومهمة كي تقف عائلات ضحايا الاعتقال التعسفي في سوريا أمام المحكمة وترفع صور مفقوديها من المعتقلين وتذكّر النظام السوري بأحبتها الذين ينكر وجودهم في سجونه.

ما سياق المحاكمة؟

تُعدّ محكمة العدل الدولية الجهاز الرئيسي الذي خوّل له ميثاق الأمم المتحدة صلاحية الفصل في المنازعات قبل أن تتفاقم بين الدول، ضمن ما أكدته المادة 92 من الميثاق، إذ نصت على أنّ هذه المحكمة هي الأداة القضائية الأساسية لها.

وحرّكت المحكمة إجراءات القضية بمجرد تسلمها الطلب المشترك بهذا الخصوص، الذي قدّمه صاحبا الطلب مشفوعاً بمطلب آخر لإصدار تدابير مؤقتة، حفاظاً على حقوقهما وحمايةً لهما بموجب أحكام اتفاقية مناهضة التعذيب.

رُفعت الدعوى ضدّ سوريا جرّاء مخالفتها الالتزامات القانونية الناشئة بموجب قانون المعاهدات، وانتهاك أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة الصادرة عام 1984 (اتفاقية مناهضة التعذيب، اختصاراً). وتعهّدت سوريا بمجرّد أن أصبحت دولة طرفاً في الاتفاقية عام 2004، باحترام كامل الالتزامات القانونية الواردة في الاتفاقية.

وتشكّل مخالفة تلك الالتزامات أو عدم الامتثال لأحكام الاتفاقية أفعالاً غير مشروعة دولياً تجعل من الدولة التي ارتكبتها عُرضة للمساءلة القانونية. وتعوّل الدعوى على حجج من قبيل "إقدام سوريا على انتهاك عدد لا يُحصى من مبادئ وأحكام القانون الدولي"، ومن ذلك ممارسة التعذيب، وهو ما يشكّل خرقاً للالتزامات المترتّبة على سوريا بموجب أحكام اتفاقية مناهضة التعذيب.

رُفعت الدعوى ضدّ سوريا ممثلةً في حكومتها ومؤسساتها، وليس ضدّ رئيسها بصفته الشخصية، والهدف من إجراءات الدعوى في هذه الحالة هو طلب إصدار حكم يثبت مسؤولية الحكومة السورية عن مخالفة التزاماتها الناشئة بموجب أحكام القانون الدولي، وتحديداً مخالفة الالتزامات الواردة في اتفاقية مناهضة التعذيب، وليس الهدف في هذا السياق أن يجري إثبات المسؤولية الجنائية للأفراد الذين ارتكبوا تلك الانتهاكات، أو أصدروا الأوامر بارتكابها.

وتعدّ كل من سوريا، وكندا، وهولندا، من الدول الأطراف في نفس الاتفاقية. وبموجب القانون الدولي، إذا نشب نزاع أو حصل انتهاك لأحكام الاتفاقية من إحدى الدول الأطراف فيها، تصبح الدول الأطراف الأخرى مخوّلة قانوناً بموجب أحكام المادة 30 (1) من الاتفاقية بالطعن في سلوك الدولة الطرف المخالفة، وإحالة النزاع إلى محكمة العدل الدولية كي تتولى الفصل فيه.

وخلال جلسة الاستماع العلنية، حرّكت المحكمة إجراءات القضية من أجل إصدار تدابير مؤقتة، وهي أوامر مؤقتة ملزمة قانوناً لأحد طرفي القضية بمجرد صدورها.

ضبط التوقعات

ويقول مؤسس "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا"، دياب سرية، إنّ "النظام السوري لا يفهم إلا بلغة البارود، وبالتالي فإنّ احتمالية أن يلتزم قرارات المحكمة ضعيفة، وهذا يترتب على جدية حصول الضحايا على التعويضات العادلة لهم".

ويضيف سرية لـTRT عربي، أنّ قرار سوريا عدم حضور الجلسة ليس له أي تأثير على سلطة المحكمة في ممارسة ولايتها القضائية على التعذيب في سوريا، إلا أنّه إشارة واضحة إلى عدم التزام سوريا مسبقاً بأي قرار قد يصدر عن المحكمة، رغم أنّ النظام السوري يستند إلى نفس المحكمة لإلزام إسرائيل بوقف جرائمها في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ويؤكد سرية ضبط التوقعات من عائلات الضحايا فيما يخص قرار المحكمة بالطلب من سوريا إجراءات مؤقتة لوقف التعذيب داخل سجونها، التي يصعب تخمين مدى قدرة المحكمة على إلزام مؤسسات النظام بتطبيقها.

فرض هذه الإجراءات من محكمة العدل الدولية وفقاً للمادة 41 من ميثاق المحكمة، يُلزم الدولة المستهدفة باتخاذ خطوات معينة، لضمان الحفاظ على حقوق الطرف الآخر المتضرّر، وهو هولندا التي تُمثل المعتقلين داخل مراكز الاعتقال.

ضغط أممي ودولي

ويرى المحامي السوري والمسؤول القانوني في "البرنامج السوري للتطوير القانوني" مهند شراباتي، أنّ قرار المحكمة فرض التدابير المؤقتة نهائي وغير قابل للطعن، وسوريا ملزَمة تنفيذه بمجرّد صدوره وتقديم تقارير دورية للمحكمة بخصوص التنفيذ لغاية صدور حكم نهائي في موضوع الدعوى من المحكمة، كما أنّ الحكم النهائي في موضوع الدعوى هو أيضاً نهائي ومُلزم بمجرد صدوره.

ويبيّن شراباتي في حديثه مع TRT عربي، أنّ عدم امتثال سوريا يتيح للطرف الآخر في الدعوى (هولندا وكندا) اللجوء إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وللمجلس إذا رأى ضرورة لذلك أن يقدم توصياته أو يُصدر قراراً بالتدابير التي يجب اتخاذها لتنفيذ هذا الحكم.

ويشير المحامي السوري إلى أنّه بغضّ النظر عمّا إذا كانت سوريا ستلتزم أم لا، فإنّ الحكم وكذلك الإجراءات والاستنتاجات التي تخلص إليها المحكمة ستكون وثيقة قانونية قوية، فهي بالإضافة إلى أنّها تسجل اعترافاً بمسؤولية الدولة السورية عن التعذيب وبمعاناة ضحايا التعذيب، ستكون مفيدة في أي تحقيقات أو محاكمات جنائية أو عمليات مناصرة مستقبلية.

ويتابع شراباتي القول: "الإجراءات سترسل رسالة قوية إلى الحكومة السورية مفادها أنْ لا إفلات من العقاب، وأنّه عاجلاً أم أجلاً ستكون هناك محاسبة عن كل الجرائم التي ارتُكبت في سوريا".

بدوره يؤكد المحامي السوري المتخصص في القانون الجنائي الدولي المعتصم كيلاني، أنّ أي قرار قد يصدر عن المحكمة لمصلحة المعتقلين السوريين "يسهم في خلق ضغط دولي واستنكار دولي لسوريا، مما قد يؤدي إلى التزام سوريا من الناحية السياسية بوقف التعذيب".

ويبيّن كيلاني لـTRT عربي، أنّه في حال عدم امتثال سوريا لقرار المحكمة، يمكن للمجتمع الدولي فرض عقوبات اقتصادية أو دبلوماسية على النظام السوري لإرغامه على الالتزام بالقرار، ويعتمد نجاح ذلك على التعاون الدولي للضغط على سوريا للامتثال لقرارات المحكمة، والالتزام بقرارات المحكمة يعتمد على مجموعة معقدة من العوامل والظروف المحيطة بالدولة المعنية.

TRT عربي