ارتفعت نسبة جرائم القتل في لبنان خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2020، إلى 74.4% مقارنة مع الأشهر ذاتها من عام 2019، حسب آخر إحصائيات المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي اللبناني.
كما أن جرائم السلب عموماً، بعيداً عن السيارات، ارتفعت بنسبة 41.3%. أما سرقة السيارات فارتفعت أقلّ من غيرها من الجرائم إلى 10.9%، ربما لأنّ شراء السيارات وقطع الغيار انخفض بشكل عامّ في لبنان من جراء الأزمة الاقتصادية الحاصلة. كذلك انخفضت نسبة جرائم سلب السيارات بقوّة السلاح بنسبة 28%، بسبب انخفاض نسبة سير السيارات وخروج المواطنين من منازلها.
واللافت أن جرائم النشل انخفضت بنسبة 45%، بسبب حالة التعبئة العامة وحظر التجوّل في الشوارع الذي فرضته جائحة كورونا في المناطق اللبنانية.
في الواقع اللبناني، لا يكاد يمر يوم إلا نسمع عن جريمة سرقة أو قتل أو خطف مقابل فدية مالية. الأمر ليس مستغرَباً في ظل الاستحقاقات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تعصف بلبنان منذ ثلاثة عشر شهراً.
فقد خسر عشرات آلاف اللبنانيين وظائفهم أو جزءاً من رواتبهم منذ انطلاق ما سُمّي "ثورة تشرين المطلبية"، التي جاء رداً على الفساد الاقتصادي المستشري في مفاصل الدول وعجز الطبقة الحاكمة عن إيجاد حلول من شأنها أن تحقّق آمال المواطن اللبناني. وقد انعكست الأزمة على الوضع الاقتصادي بشكل كبير، إذ تهاوت أسعار صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار بشكل غير مسبوق.
ناهيك بالحجر الصحي وحالة التعبئة العامة التي فرضتها جائحة كورونا التي اجتاحت لبنان منذ فبراير/شباط الماضي، مما أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي بوتيرة أسرع نتيجة تعطل غالبية الوظائف في البلاد، مما أدى إلى ارتفاع معدَّل البطالة إلى 35%. بالتالي بات نصف اللبنانيين تقريباً يعيشون تحت خط الفقر، مما انعكس بارتفاع كبير في الجرائم في لبنان على اختلافها، كالقتل والسرقة بالدرجة الأولى.
العاصمة أكثر استقطاباً للجرائم
"لم يحصل هذا الارتفاع أول مرة في تاريخ لبنان، فقد حدث ارتفاع أكثر من ذلك خلال عامَي 2012 و2013، من جراء الأوضاع الأمنية غير المستقرة التي كانت سائدة آنذاك"، واقع اجتماعي يؤكده مصدر أمني في قوى الأمن الداخلي اللبناني، رفض الإفصاح عن اسمه، خلال حديثه لـTRT عربي.
وحول المناطق التي تتمركز فيها الجرائم بشكل لافت، يكشف المصدر الأمني أن "الجرائم تحصل في مختلف المناطق اللبنانية، الأمر الذي يصعّب حصرها بمنطقة معينة، إلا أنها تتمركز بشكل أكبر بين بيروت وجبل لبنان نتيجة قربهما من المدينة، وبالتالي الشخص الذي ينتشل مجهول الهوية بالنسبة إلى الناس نتيجة كبر مساحة العاصمة وتنوع سكانها".
ويقول المصدر الأمني: "الارتفاع الحالي في معدلات الجرائم هو نتاج أسباب أخرى وعوامل لها علاقة بالاقتصاد وعدم الاستقرار السياسي، بالإضافة إلى الانفجار الأليم الذي حلّ بمرفأ بيروت والمدينة كاملةً، وجائحة كورونا واستغلال الثورة والحراك الشعبي. هناك أشخاص استغلوا كل هذه الأمور لتنفيذ أعمال إجرامية، مما أدَّى إلى ارتفاع معدلات الجرائم مثل سرقة السيارات".
ويضيف: "الارتفاع في نسب الجريمة يعود أيضاً إلى ارتفاع سعر صرف الدولار بالنسبة إلى العملة في لبنان وسوريا، فأصبحت سرقة السيارات والمتاجرة بها بالدولار مربحة جداً، الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع أعداد السارقين والموقوفين. واللافت هنا أنه لا طبقة جديدة للسرقة، أي لم يدخل أشخاص جدد إلى عالم الإجرام، بل هم مجرمون قدامى".
ويشير إلى أن "كل حالة لها تحليل خاصّ، مثلًا القتل ارتفع خلال فترة كورونا نتيجة وجود أشخاص لديهم أمراض نفسية فارتفعت جداً وانعكست على المجتمع من خلال أعمال قتل غالبيتها لها علاقة بالعائلة، أيْ شخص قتل والدته أو والده أو زوجته. هذه الجرائم مرتبطة بالعوامل النفسية الاقتصادية أو النفسية العائلية، وبالتالي جريمة القتل لا نستطيع أن نقول إلا إنها جريمة لها حالات معيَّنة، دون أن ننسى الثأر وجرائم الشرف في مناطق جغرافية محددة، ولا ننسى الجرائم المرتبطة بالنزوح السوري أيضاً".
عنف يتطور وفقاً لظروف المجتمع
أمام هذا الواقع الكارثي تتضاعف هموم اللبنانيين يومياً وترتفع وتيرة الشعور بالقلق وعدم الاستقرار لديهم في بلاد وضعوا فيها كل آمالهم، إلا أنها ضيّقت سبل العيش عليهم. أُجبر بعضهم على اللجوء إلى ارتكاب الجرائم لتأمين قوت يومه، بعدما باتوا خائفين من مستقبل أضحى رهن قرارات الطبقة السياسية الحاكمة.
"ظروف لبنان تحديداً كما نعيشها الآن هي ظروف استثنائية ومأزومة، وانعكاسها على نفسية المواطنين هو انعكاس سلبي جداً. فعوامل الفقر والحرمان والكبت والإهانة وعدم الاعتراف بقيمة المواطن وبحقوقه جميعها تجعله يميل أكثر إلى ارتكاب الجرائم". هكذا يفسر علم النفس الارتفاعَ اللافتَ في معدل الجرائم في لبنان مؤخراً، حسب وجهة نظر المعالجة النفسية غرازيلا كلّاب خلال حديثها لـ TRT عربي.
وتضيف كلّاب: "أميل دائماً إلى أن أعود بالشخص إلى مرحلة ولادته، فحالة الجرائم مرتبطة بتطور الإنسان وتطور غرائزه، وهذه النظرية عمومية تنطبق على جميع الأفراد حسب عدة خبراء ومحللين نفسيين وأطباء".
وتؤكد كلّاب أنه "إجمالاً يُخلق الكائن البشري بتكوينه، وهو يميل إلى العدائية والكره والعنف. لا يعني هذا أنّ هذه الميول تبقى لأنّ مصير هذا العنف الخلقي يختلف حسب التقلبات النفسية الجينية التي ترتبط بالأنماط الهيكلية الذهنية لدى الإنسان الذي يكون تحت ضغط التفاعل المتواصل بين حاجاته والبيئات المتتالية التي يعيش فيها، بين عائلته والمدرسة والجامعة وإطار العمل والمجتمع ككل".
وتقول: "نحن الآن لدينا صراع بيننا وبين السلطة الحاكمة، نطلب منها أن تنظر إلينا قليلاً وأن تعطينا جزءاً من حقوقنا كي نعيش حياة كريمة. هذا الصراع إذا لم تلبِّ الدولة مطالبه فسيخلق نزاعاً وتوترات نفسية وسيتحول إلى سلوك عنفي بغضّ النظر عن أنّ الذين يرتكبون الجرائم، مثل جرائم الشرف، يرتكزون على معتقدات وتقاليد مرتبطة بالمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان".
وتحلّل المعالجة النفسية "الجرائم بأنها تولد نتيجة حاجة نفسية لا نتاج مرض نفسي. لماذا يسرق الإنسان؟ لأنه بحاجة، هنا لا نقصد السرقة المرضيَّة أو القتل الذي سببه اللذة دون أي شعور بالذنب، بل نتكلم عن السرقة والقتل للحاجة التي أصبحت في عقل الإنسان مشروعة. مثلاً أنا أسرق لأنني لست قادراً على تلبية احتياجاتي وعائلتي، وهنا لا علاقة بين هذا وبين الذي يقتل زوجته بسبب خيانتها مثلاً، أو من يقتل أخته نتيجة تقاليد اجتماعية".
يبدو أن معدلات الجرائم الرسمية التي صرحت عنها قوى الأمن الداخلي اللبناني تعكس الواقع الصعب الذي يعيشه اللبنانيون، نظراً إلى الانهيار الاقتصادي والمالي والسياسي الذي يشهده لبنان منذ ثلاثة عشر شهراً. بيد أن توقعات الخبراء تشير إلى استمرار هذه الأزمة لسنوات إضافية، بما يهدد بارتفاع إضافي في معدلات الفقر والبطالة، وبالتالي معدلات الجريمة، الأمر الذي يستدعي جهوزية عالية الدرجة لدى أجهزة الأمن اللبنانية للتعامل مع الأحداث المستجدة في البلاد.