تابعنا
في الوقت الذي تحاول فيه اليونان تصوير قضية "آيا صوفيا" باعتبارها مسألة تمس المشاعر المسيحية حول العالم، فإن الصرح التاريخي الذي ظل مسجداً لأكثر من أربعة قرون يعد رمزاً حقيقياً ذا أهمية دينية للمسلمين في تركيا والعالم أيضاً.

منذ أن صدر قرار مجلس الوزراء التركي عام 1934، الذي قضى بتحويل آيا صوفيا من مسجد إلى متحف، والشعب التركي يتلهف لإعادة الصرح المعماري الفريد إلى سابق عهده، لكن لهفته لم تتحول إلى مطالبات شعبية إلا في السنوات الأخيرة، إذ شهد المتحف في مناسبات عديدة ترتيلاً لآيات من القرآن الكريم، الأمر الذي أثار حفيظة اليونان رغم عدم امتلاكها أي حق بخصوص شأن يعد ضمن سيادة تركيا الداخلية.

أقيم المبنى الفريد في طرازه المعماري عام 537م بأمر من الإمبراطور البيزنطي جستنيان، واعتبر على مدار عقود كاتدرائية لا نظير لها في العالم المسيحي، إلى أن فتح السلطان العثماني محمد الفاتح مدينة القسطنطينية عام 1453م، محولاً آيا صوفيا إلى مسجد، كما أطلق على المدينة منذ ذلك الحين اسم إسطنبول.

وظلت آيا صوفيا كذلك حتى قررت الحكومة التركية في عهد مؤسس الجمهورية، مصطفى كمال أتاتورك، تحويلها إلى متحف مفتوح لزيارة السياح، في ثلاثينيات القرن الماضي.

مطالبات شعبية

ويرى بعض الأتراك أن تحويل آيا صوفيا إلى متحف يسيء إلى ذكرى السلطان محمد الفاتح الذي صلى داخلها عقب الفتح، وتصاعدت حدة المطالبات بإعادة تحويل المتحف إلى مسجد مع تصريحات لنائب رئيس الوزراء التركي الأسبق بولنت أرينتش، في 2013، عندما قال إنه يأمل أن يتغير وضع المبنى، مضيفاً أنه يبدو "حزيناً"، لكن يأمل أن "تعود البسمة له قريباً".

وفي عام 2013 رتل إمام تركي القرآن داخل متحف آيا صوفيا لأول مرة بعد 80 عاماً من تحويل المسجد إلى متحف، وذلك خلال افتتاح معرض "حب الرسول" للخط، وفي العام التالي نظمت جمعيات شبابية بعض الفعاليات والحملات الإعلامية المطالبة بإعادة فتح آيا صوفيا كمسجد، وكان أبرزها في شهر رمضان حينما أدى آلاف الأتراك صلاة التراويح أمام الصرح التاريخي.

وفي مارس/آذار 2019 قال الرئيس رجب طيب أردوغان، إن تركيا تخطط "لإعادة آيا صوفيا إلى أصله، وليس جعله مجانياً فقط، وهذا يعني أنه لن يصبح متحفاً، وسيسمى مسجداً".

وشدد على أن مسألة إعادة تحويل آيا صوفيا إلى مسجد "مطلب يتطلع إليه شعبنا والعالم الإسلامي، أي إنه مطلب للجميع، فشعبنا مشتاق منذ سنوات ليراه مسجداً".

وشارك الرئيس أردوغان نفسه بتلاوة سورة الفتح من القرآن الكريم في آيا صوفيا نهاية مايو/أيار الماضي، ضمن فعاليات أقامتها وزارة الثقافة والسياحة بمناسبة الذكرى الـ567 لفتح مدينة إسطنبول، وهو ما أشعل سجالاً ساخناً بين تركيا واليونان التي نددت بما حدث، وزعمت أن الخطوة "محاولة غير مقبولة لتغيير موقع تراث عالمي، وإهانة للمشاعر الدينية للمسيحيين في جميع أنحاء العالم".

وجاء الرد من وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو بأن آيا صوفيا ليست تابعة لليونان وإنما ملك للجمهورية التركية، وأن "اعتراض اليونان على تلاوة القرآن في آيا صوفيا هراء وتجاوز للحدود".

وصية السلطان الفاتح

كما اعتبر وزير العدل التركي عبد الحميد غول أن "كسر قيود" آيا صوفيا وفتح أبوابها للعبادة رغبة مشتركة للجميع، مذكراً بأن ذلك تنفيذ لوصية السلطان محمد الفاتح. واستنكر وضعها الحالي بالقول: "إنه المسجد الوحيد الذي يجري الدخول إليه بأجرة، والقانون يقضي بإزالة هذا الأمر المشين".

يأتي هذا السجال في وقت تتجه الأنظار في تركيا إلى جلسة قضائية مرتقبة في يوليو/تموز المقبل، لمجلس الدولة وهو أحد المحاكم العليا في البلاد، الذي سيشهد البت في القضية المرفوعة ضد قرار مجلس الوزراء عام 1934 بتحويل آيا صوفيا إلى متحف.

وضع آيا صوفيا هو موضوع سيادي يتعلق بالسيادة التركية والقانون التركي.

علي باكير، باحث سياسي متخصص في العلاقات الدولية

ورغم صدور اعتراضات على إمكانية تغيير الوضع الحالي لآيا صوفيا في الغرب فإن الصوت الأبرز والأكثر اعتراضاً تمثله اليونان، التي "تحاول أن تقدم نفسها لجمهورها الداخلي وللغرب أيضاً على أنها الحامي للإرث المسيحي" كما يرى علي باكير الباحث السياسي المتخصص في العلاقات الدولية.

وتستند اليونان في موقفها هذا إلى أن آيا صوفيا كانت قبل الفتح الإسلامي كنيسة، وتعارض إعادة فتحها كمسجد. ويؤكد باكير، في حديث مع TRT عربي، أن هذا الموقف يأخذ زخماً كبيراً في الداخل اليوناني وأيضاَ في العواصم الغربية "لا سيما تلك التي تتخذ مواقف معادية للدين كفرنسا، وهذا يؤمن دعماً سياسياً ودبلوماسياً لليونان".

لكن اليونان "ليس لها أي صفة قانونية للتدخل في هذا الموضوع" يقول الخبير في العلاقات الدولية، مؤكداً أن وضع آيا صوفيا هو "موضوع سيادي يتعلق بالسيادة التركية والقانون التركي"، ويضيف: "كما أن تحويل آيا صوفيا من مسجد إلى متحف تم بقرار سيادي داخلي قانوني تركي، فإن فرملة هذا القرار وإعادتها إلى وضعها الطبيعي كمسجد أيضاً قرار سيادي تركي يتعلق بالقانون التركي فقط، بغض النظر عن مواقف الدول الاخرى".

ويخلص باكير إلى أن اعتراض اليونان بين الفينة والأخرى يهدف إلى "إثارة الحساسيات والفتن، والحصول أيضاً على الدعم السياسي والدبلوماسي من الدول التي تنظر تاريخياً إلى تركيا كعدو".

رمز للمسلمين

وفي الوقت الذي تحاول فيه اليونان تصوير قضية وضع آيا صوفيا باعتباره مسألة تمس المشاعر المسيحية حول العالم، فإن الصرح التاريخي الذي ظل مسجداً لأكثر من 4 قرون يعد رمزاً حقيقياً ذا أهمية دينية للمسلمين في تركيا والعالم أيضاً.

آيا صوفيا أحد أهم الرموز ذات الدلالة على فتح إسطنبول وكذلك دخول المدينة تحت حكم المسلمين.

محمد جيليك، محلل سياسي تركي

يقول الصحفي والمحلل السياسي التركي محمد جيليك: إن "آيا صوفيا أحد أهم الرموز ذات الدلالة على فتح إسطنبول، وكذلك دخول المدينة تحت حكم المسلمين".

وأضاف، في حديث مع TRT عربي: أن "تحويل هذا المعبد إلى متحف بعد أن فتح كمسجد جرده من الأجواء الروحانية بصورة شبه تامة، وتحول بسبب ذلك إلى مصدر حزن للشعب".

ويرى جيليك أن سبب الموقف اليوناني، ومعه اعتراضات بعض الجهات والدول في الغرب، في هذا الصدد يعود في الحقيقة إلى أن هذه الدول ترى في وضع آيا صوفيا كمسجد إلى جانب فتح إسطنبول "تحدياً للغرب".

ويشير الصحفي التركي إلى أن وضع آيا صوفيا الذي يعد رمزاً سياحياً مهماً لتركيا منذ زمن طويل، موضوع على طاولة مجلس الدولة للفصل في هذا الشأن. وحول توقعاته في هذا الصدد قال: "من الوارد تنظيم استفتاء لفتحه كمسجد، ومن الممكن أيضاً فتح قسم منه للعبادة، وهذا قرار يتخذه القضاء والشعب والدولة التركية".

وكان بطريرك الأرمن في تركيا إسحاق مشعليان قد وجه ضربة لادعاءات اليونان ومنطلق اعتراضاتها عندما أشار إلى أن وضع الصرح التاريخي ينبغي أن يظل مكاناً للعبادة لا متحفاً.

وأضاف: أن "آيا صوفيا تأسس بجهد 10 آلاف عامل، وبإنفاق ثروة كبيرة. وشهد المعبد عدداً لا يحصى من أعمال الترميم والإصلاح، وكذلك جهود وقف السلطان محمد الفاتح. كل ذلك لم يكن للمحافظة عليه كمتحف بل كمكان للعبادة".

وقد أبدى البطريرك اعتراضه على تجريد المسجد من أجوائه الروحية بتحويله إلى متحف بالقول: إنه "بدلاً من اندفاع السياح الفضوليين هنا وهناك لالتقاط الصور، فإن سجود المؤمنين وجثوهم على ركبهم باحترام وخشوع يعد أكثر ملاءمة مع طبيعة هذا المعبد".

كما طالب بطريرك الأرمن بتخصيص مكان داخل آيا صوفيا لعبادة المسيحيين، حتى يكون رمزاً للسلام الإنساني.

أقيم المبنى الفريد في طرازه المعماري عام 537م بأمر من الإمبراطور البيزنطي جستنيان (AA)
"تحويل آيا صوفيا من مسجد إلى متحف تم بقرار سيادي داخلي قانوني تركي" (AA)
TRT عربي