تابعنا
رأى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي انعقد من أجل النظر في سجل فرنسا على صعيد الحقوق والحريات، أن باريس مطالبة ببذل مزيد من الجهود لمحاربة مجموعة من السلوكيات والظواهر المنافية لروح حقوق الإنسان.

صدر إعلان حقوق الإنسان الفرنسي لسنة 1789 في أعقاب الثورة الفرنسية، وتميزت هذه الوثيقة الفرنسية عن غيرها من وثائق الدول الغربية التي سبقتها بأنها أكثر شمولية ووضوحاً.

وجاء في مقدمة الإعلان: "إن ممثلي شعب فرنسا مشكَّلون في هيئة جمعية وطنية، وتَوَضح لهم أن الجهل وإهمال حقوق الإنسان، هما من الأسباب الرئيسة للمصائب العامة وفساد الحكومات، وقرروا أن يطرحوا في الإعلان هذه الحقوق الطبيعية الثابتة التي لا يجوز الانتقاص منها".

ولكن المناخ المواتي لتحقيق رفاه قانوني في حقوق الإنسان، لم يمنع فرنسا من الوقوع في هفوات تتعارض مع مبادئ الإعلان، بتطبيق بعض الإجراءات من طرف أجهزة الدولة في الحكومات المتعاقبة، وقد يبدو ذلك جلياً بدءاً من السلوكات الوحشية التي أمعنت بها في فترة استعمارها للجزائر.

باريس تحت مجهر الأمم المتحدة

كانت فرنسا من ضمن 14 دولة تخضع للمراجعة من جهة مجموعة العمل الخاصة بالاستعراض الدوري الشامل، في الفترة ما بين 1-12 مايو/أيار 2023، وذلك بعد أن أُجريت الاستعراضات الدورية الشاملة ثلاث مرات لفرنسا، في مايو 2008 ويناير/كانون الثاني من 2013 و 2018.

استندت المراجعات إلى عدة وثائق من ضمنها: التقرير الوطني وهي المعلومات المقدمة من الدولة، وتقارير خبراء ومجموعات حقوق الإنسان المستقلة والتابعة لهيئات الأمم المتحدة، إلى جانب المعلومات المقدمة من جهات أخرى كالمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان والمنظمات الإقليمية وجماعات المجتمع المدني.

ويُعقد الاجتماع لتوضّح الدول الخطوات التي اتخذتها لتنفيذ التوصيات التي طُرحت في المراجعات السابقة، وتسليط الضوء على التطورات الأخيرة في مجال حقوق الإنسان في البلاد. وترأست وفد فرنسا السيدة "إيزابيل لونفيس روما"، وزيرة المساواة بين الجنسين والتنوّع وتكافؤ الفرص.

رأى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي انعقد من أجل النظر في سجل فرنسا على صعيد الحقوق والحريات، أن باريس مطالبة ببذل مزيد من الجهود لمحاربة مجموعة من السلوكيات والظواهر المنافية لروح حقوق الإنسان.

وقالت ممثلة الولايات المتحدة "كيلي بيلينغسلي": "نوصي فرنسا بتعزيز جهودها على صعيد مكافحة الجرائم والتهديدات بالعنف بدافع الكراهية الدينية على غرار معاداة السامية وكراهية المسلمين".

ونددت البرازيل واليابان بـ"التنميط العنصري من جانب قوات الأمن"، في حين دعت جنوب إفريقيا باريس إلى "اتخاذ تدابير تضمن حيادية تحقيقات تجريها كيانات خارج نطاق الشرطة في كل الحوادث العنصرية التي تتعلق بشرطيين".

غير أن "إيزابيل روم" رئيسة الوفد الفرنسي، لم ترد مباشرة على الانتقادات، واكتفت بقولها: "إن العنصرية ومعاداة السامية هما سمّ للجمهورية"، ولكن في أثناء الجلسة المخصصة لردود الوفد الفرنسي، ردت "صابرين باليم" المستشارة القانونية في وزارة الداخلية بأن "استخدام القوة كان ضمن إطار صارم، مشيرة إلى التزام الحكومة معاقبة المخطئين".

الاحتقان سيّد الموقف

بدأت الانتقادات تطول الشرطة الفرنسية وتتهمها بعدم مراعاة حقوق الإنسان، مع اتهامات بوجود غضّ بصر واضح وتجاهل للتجاوزات من طرف الحكومة منذ اندلاع احتجاجات الستر الصفراء، التي تخللها أحداث عنف من قوات الشرطة، باستخدامهم غازاً مسيلاً للدموع وكرات مضيئة وقنابل صاعقة لتفرقة جموع المحتجين، فتسببت لهم بإصابات مختلفة، بينما عجزت الحكومة عن احتواء الحركة.

تمكنت الحكومة في النهاية من تهدئة الأوضاع بوعود بتحقيق المطالب وحل الأزمة، غير أن الأغلبية من الشعب الفرنسي بقيت متعاطفةً مع حركة السترات الصفراء، وبدت متأهبةً للرد ومعاودة الاحتجاج في أول فرصة.

لم تسُد الألفة في العلاقة بين الأطراف المعنية في فرنسا، وبقي الاحتقان الاجتماعي والتوتر سيدَي الموقف، فكان من الطبيعي حدوث انفجار بعد محاولات الحكومة إصلاح نظام التقاعد الذي قوبل برفض قاطع من المحتجين والنقابات، لاعتباره ظالماً ومجحفاً وبشكل خاص للنساء اللواتي يعملن في مهن صعبة.

الاحتجاجات التي استمرت قرابة ثلاثة أشهر استخدمت فيها الشرطة العنف، فقوبلت بعنف مضاد من المتظاهرين، انتهى باعتقالات كبيرة بين صفوف المتظاهرين، وبلغ ذروته في الأول من مايو الموافق عيد العمال.

وفي هذا الصدد قالت "بينيديكت جانرو" مديرة هيومن رايتش ووتش في فرنسا: "يبدو أن السلطات الفرنسية لم تستخلص العبر، ولم تراجع سياساتها وممارساتها في احتواء الحشود" منذ مظاهرات السترات الصفراء في عامي 2018 و2019 الذي يقارن التحرك الحالي بها.

"تمييز على أسس عرقية"

واستمر التمييز العنصري والديني، مستهدفاً بصورة خاصة الأفراد المسلمين والجمعيات المسلمة، وفقاً لما ذكرته منظمة العدل الدولية في تقريرها حول فرنسا لعام 2022، واستمر الاستخدام المفرط للقوة من جانب الشرطة دون مساءلة.

كذلك عانت النساء التمييز بصورة مضاعفة، إذ مُنع بطرق غير قانونية تجمّع للاعبات كرة القدم يُعرَف بـ”Les Hijabeuses” (المحجّبات)، من تنظيم احتجاج خلال نقاش برلماني حول اقتراح لحظر ارتداء ملابس دينية في الرياضات التنافسية، بهدف إضفاء الطابع الديمقراطي على الرياضة وفقاً لادعائهم، لكنه تسبب بأن يعزز حظراً تمييزياً يمنع النساء المسلمات من المشاركة في مباريات كرة القدم التنافسية إذا قررن ارتداء الحجاب.

وعلى الرغم من نقض هذا القرار من طرف المحكمة الإدارية وتعثر إتمامه، فإن المشكلة تكمن في وجود خطاب تمييزي ساد جلسات النقاش الخاصة به، يضاف إلى ذلك ما حدث عندما أيّد مجلس الدولة حكماً أصدرته محكمة أدنى قضى بحظر ارتداء ملابس السباحة التي تغطي كامل الجسد –ما يُسمّى "البوركيني"– في المسابح العامة في غرينوبل، خوفاً من تقويض المساواة في المعاملة الذي ينص عليها مشروع "القيم الجمهورية".

حثت لجنة القضاء على التمييز العنصري فرنسا على مضاعفة جهودها لمكافحة خطاب الكراهية العنصري، الذي يُعزى إلى الخطاب التمييزي واسع الانتشار من جانب زعماء سياسيين ضد بعض الأقليات العرقية، "أفراد طائفة الروما والرُّحّل والأفارقة والأشخاص المنحدرون من أصل إفريقي ومن أصل عربي وغير المواطنين".

كما تخشى منظمات حقوقية وإنسانية اليوم أن تطبيق القانون في فرنسا لا ينفذ بشكل عادل، وقد يعمد الموظفون إلى معاملات تمييزية بناء على أسس عرقية، يكون ضحيتَها أشخاصٌ غير فرنسيين أو مواطنون من أصول عربية أو إفريقية.

وفي هذا ذكرت منظمة العدل الدولية أن النائب العام قرر إغلاق قضية شاب فقد يده خلال عملية للشرطة في حفلة بالقرب من "ريدون" استُخدمت فيها مقذوفات التأثير الحركي، وقنابل الصعق، والغاز المسيل للدموع على نحو غير متناسب وخطر ليلاً مع انخفاض الرؤية، بحجة أن استخدام القوة كان ضرورياً ومتناسباً.

كما لم يُحرز ضمان العدالة والحقيقة والتعويض أي نتائج، فيما يتعلق بوفاة المواطنة الجزائرية "زينب رضوان" التي فارقت الحياة بعد أن أصابتها عبوة غاز مسيّل للدموع في وجهها، أطلقتها الشرطة خلال احتجاج جرى خارج شقتها.

تنديد دولي

استدعت الممارسات العنيفة ضد المحتجين تنديد المنظمات الحقوقية غير الحكومية، وأعربت مفوضة حقوق الإنسان في مجلس أوروبا "دنيا مياتوفيتش" عن قلقها من الاستخدام المفرط للقوة داعية فرنسا إلى احترام حق التظاهر، وأصدرت بياناً يعارض مبررات الشرطة قالت فيه: "لكن أعمال العنف المتفرقة من بعض المتظاهرين أو غيرها من المخالفات التي يرتكبها آخرون في أثناء الاحتجاج لا يمكن أن تبرر الاستخدام المفرط للقوة من موظفي الدولة، ولا تحرم المتظاهرين السلميين التمتع بالحق في حرية التجمّع".

يرى المراقبون أن فرنسا تواجه اليوم استحقاقاً خطيراً بضرورة اتخاذ موقف حقيقي تبين فيه النهج الذي تتبعه فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وهذا أمر أصبح مثار جدل بعد إصدار قانون "القيم الجمهورية" في عام 2021، الذي أصبح من الممكن أن تطبَّق بحجته أحكام تتنافى مع إعلان حقوق الإنسان، وقد يتعرض للطعن بعدم دستوريته أمام المحكمة المختصة.

وواجهت منظمات المجتمع المدني قيوداً كثيرة بعد إصدار القانون المذكور آنفاً، وكاد يؤدي إلى حل منظمة مناهضة للفاشية ومنظمتين مؤيدتين للفلسطينيين، لكن مجلس الدولة أوقف القرار بحلهما، إذ قضى بأنهما "لم تُحرّضا على التمييز أو الكراهية أو العنف، أو السلوك الذي يُرجَّح أن يحضّ على ارتكاب أعمال إرهابية". علاوة على توعُّد وزير الداخلية بحل وسيلة الإعلام المستقلة نانت ريفولتيه (Nantes Révoltée)، الأمر الذي يرى فيه خبراء أنه اعتداء صارخ على حرية التعبير وانتهاك للحرية الفكرية التي ضمنها الدستور.

إن انحراف فرنسا أو غيرها من الدول عن احترام حقوق الإنسان، قد يفتح الباب لنقلة حقوقية غير مبشّرة تعيد العالم في الزمن إلى عقود مضت، وفي هذا أوصى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فرنسا في جلسات المراجعة بتغيير سياستها في التعامل مع المهاجرين، والحد من عنف الشرطة مع المتظاهرين السلميين.

TRT عربي