مشهد تكرر في أكثر من مناسبة في قطاع غزة، واليوم يُعاد إنتاج نفس المشهد، ولكن في جنوب لبنان. فمنذ إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي توسيع عدوانه على لبنان والتحرك برياً ضد جنوب لبنان في 30 سبتمبر/أيلول الماضي، ادَّعى الاحتلال أن عمليته البرية "مركزة ومحدودة" على نطاق القرى الحدودية التي يصفها بأنها "مصدر للتهديد الأمني".
واتهم جيش الاحتلال حزب الله اللبناني بتحويل هذه القرى إلى "قواعد عسكرية"، وهذا الاتهام كان مقدمة لأوسع عملية تدمير وهدم لهذه القرى منذ الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، بعد أن بدأت قوات الاحتلال عمليات نسف منظمة طالت المباني السكنية، لم تَسْلم منها المواقع الاثرية.
تدمير الجنوب
واستناداً إلى صور الأقمار الصناعية لقرى جنوب لبنان، قالت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية إن نحو رُبع المباني في 25 قرية لبنانية تعرض للدمار، مضيفة أن ما لا يقل عن 5868 مبنى تعرض للدمار أو تضرر، وبخاصة في قريتَي عيتا الشعب وكفر كلا، حيث دمر جيش الاحتلال نصف مباني القريتين.
ووفقاً للصحيفة، فإن 80% من هذا الدمار وقع بعد بداية المعركة البرية، وتمتلئ منصات التواصل الاجتماعي بالمقاطع المصورة التي تُظهر تنفيذ جيش الاحتلال الإسرائيلي عمليات تدمير للمنازل. ولا تعكس هذه المقاطع المصورة والصور الفضائية إلا جانباً بسيطاً من الدمار الذي لحق بقرى الجنوب.
ووفقاً لصحيفة نيويورك تايمز واستناداً إلى صور من الأقمار الصناعية فإن ما لا يقل عن 206 مبانٍ دُمرت في قرية عيتا الشعب، مما أدى إلى تدمير الجزء الشرقي من القرية بالكامل تقريباً. وفي كفر كلا تعرض ما لا يقل عن 284 مبنى لأضرار بالغة أو للتدمير الكامل، بالمقارنة مع ما يقرب من 100 منزل خلال حرب عام 2006.
وتعرضت وقرية محيبيب، الواقعة في قضاء مرجعيون في محافظة النبطية، لأكبر عملية تدمير واسعة شملت المراكز التاريخية، بعد أن دمر جيش الاحتلال إحدى المقامات التي يعود عمرها إلى آلاف السنين. وقال مختار البلدة، قاسم أحمد جابر، إن القرية تحمل أهمية "تاريخية ودينية، وتضم مقام النبي بنيامين، ابن النبي يعقوب، ويعود تاريخه إلى أكثر من 2100 عام".
وإلى جوار قرية محيبيب تقع قرية "ميس الجيل"، وقد تعرضت لأكبر عملية تدمير قضت على الجزء الأكبر من القرية التي بلغ عدد سكانها 8 آلاف نسمة قبل الحرب، ووفقاً لصحيفة واشنطن بوست فقد دُمّر أو تضرر ما لا يقل عن 900 منزل في القرية.
أما قرية "مطمورة"، فلم يُبقِ الاحتلال على أي منزل بها، فقد دمّر القرية بعد أن وصفها بـ"قرية الإرهاب"، كما نقلت صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، أنه "من شدة الانفجار اضطر الجيش الإسرائيلي إلى إصدار توضيح للسكان الإسرائيليين".
عقيدة الضاحية في أصل التدمير
يقول المحللون الذين تحدثوا مع صحيفة واشنطن بوست إن حجم الدمار الذي تعرضت له القرى الحدودية في لبنان يشير إلى تنفيذ جيش الاحتلال الإسرائيلي عملية ممنهجة لتدمير المنطقة لتصبح غير صالحة للسكن على غرار ما جرى في قطاع غزة.
وخلال عمليات جيش الاحتلال في مخيم جباليا في شهر مايو/أيار الماضي، قال ضابط في عمليات الفرقة 98، خلال مقابلة مع موقع "YNET" الإسرائيلي إن "الدرس المركزي المستفاد في خان يونس، الذي يُطبَّق حاليا في جباليا هو تدمير منازل المسلحين قدر الإمكان، وعدم تركها سليمة كما حدث في مناطق القتال الأخرى في شمال القطاع". وأشار الضابط إلى أن قوات الاحتلال "دمرت أكثر من 100 مبنى في المخيم باستخدام معدات هندسية وألغام ومتفجرات وغارات جوية، وفي بعض الأحيان ارتجل المقاتلون وأحرقوا المنازل".
هذا النهج هو استمرار لما يُعرف بـ"عقيدة الضاحية" التي طورها جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب لبنان 2006، وتحديداً قائد المنطقة الشمالية في ذلك الوقت غادي آيزنكوت، الذي صرح لصحيفة يديعوت أحرونوت العبرية في أكتوبر/تشرين الأول 2008 بأن "إسرائيل ستوسّع، في المواجهة المقبلة، القوة التدميرية التي استخدمتها قبل عامين ضد الضاحية، الحي الشيعي في بيروت"، وأضاف: "سنستخدم قوة غير متكافئة ضد كل قرية تُطلق منها النار على إسرائيل، وسنُلحق بها ضرراً ودماراً هائلين.. إنها من وجهة نظرنا قواعد عسكرية."
التهجير: دروس غزة في الجنوب
وتُظهر التقديرات اللبنانية أن عدد النازحين في لبنان تجاوز 1.4 مليون نازح، جاء القسم الأكبر منهم من قرى جنوب لبنان ومنطقة البقاع والضاحية الجنوبية في بيروت، فيما اتبع الاحتلال في جنوب لبنان أسلوب التهجير الذي أجراه مع قطاع غزة.
وعبَّر عن نيات الاحتلال استخدام التهجير أداة لفرض واقع أمني جديد على الحدود مع لبنان، رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي هرتسي هاليفي، الذي قال في 11 أكتوبر/تشرين الأول الماضي لجنوده في إحدى قرى جنوب لبنان: "إذا جاء أحد لبناء هذه القرى مرة أخرى، فسوف يقول إنه ليس من المُجدي إعادة بناء البنية التحتية لإرهاب، لأنه [في هذه الحالة] فإن الجيش الإسرائيلي سوف يدمر القرية مرة أخرى".
فيما قال رئيس جهاز الشاباك رونين بار، الذي شارك في الاجتماع: "لا تستطيع دولة إسرائيل حماية سكانها باستخدام حراس الأمن في المول أو من الصواريخ باستخدام الغرف المحصّنة فقط.. يجب أن تكون الحماية في أوكار الإرهابيين وخطوط إنتاجهم".
وأضاف: "لتحقيق حدود سلام، يجب وجود دفاع على جانبي الحدود، مع حرية التحرك. في السنوات الأخيرة، شهدنا تأسيس حركة حماس لنفسها في لبنان، وسيزداد ذلك لأنهم يتركون غزة، وستكون الاستثمارات هنا.. سنواصل ملاحقتهم في كل مكان".