منذ فترة والعلاقات المغربية الفرنسية تعتريها التوترات، وخصوصاً منذ وصول الرئيس إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه، إذ وُصفت العلاقة بين الرباط وباريس على أنّها "أزمة صامتة" طفت إلى السطحِ شيئاً فشيئاً.
وتطورت التوترات بعد غياب سفيرٍ للمغرب في فرنسا لأكثر من ثمانية أشهر، بعد أن جرى استدعاء السفير محمد بنشعبون، وكذا حثِّ البرلمان الأوروبي للمغرب على "احترام حرية التعبير وحرية الإعلام"، بإيعاز من فريق برلمانيين فرنسيين، داخل البرلمان الأوروبي، ما رأى فيه الإعلام المغربي أنّه قرار موجّه ضدّ مصالح المغرب من طرف حزب ماكرون.
إلا أنّ الزلزال الذي ضربَ المغرب، في ليلة 8-9 سبتمبر/أيلول الحالي، جعل هذا الخلاف يتصدر المشهد مجدداً، بعد عدم قبول المغرب للعرض الفرنسي بتقديم المساعدات في مجهود الإنقاذ، وهو أمر خلق جدلاً حول الخلفيّة السياسية التي دفعت المملكة إلى هذا القرار.
وانطلقت شرارة الجدل في وسائل الإعلام الفرنسية، التي تساءلت إنْ كان المغرب أدار وجهه لباريس، وخاصة أنّ الرباط نفت عبر وكالة أنبائها الرسمية بأن تكون برمجت أي زيارة لماكرون إلى المغرب، رغم أنّ وزيرة خارجيته زعمت في حوار صحفي أنّ هناك زيارة مرتقبة له إلى الرباط.
تحدي سياسة الأزمات المغربية
ضرب زلزال أقاليم مغربية عديدة توجدُ في جبال الأطلس الكبير، أبرزها أقاليم شيشاوة وتارودانت والحوز الذي كان بؤرة الزلزال الذي بلغت قوته 7 درجات على سلم ريختر، بحسب معهد الجيوفيزياء المغربي.
ويتسمُ الإقليم بطبيعتهِ الجبلية التي تغطي ثلاثة أرباعه، ما هدَّم البيوت وأغلق الطرقات، بفعل تساقط الحجارة من أعالي الجبال، وجعل الضحايا عالقين تحت الركام، وعقَّد عمليات الإنقاذ في الساعات الأولى.
وفي هذا الصدد، يقول سليمان صدقي، الباحث في السياسات العمومية والتنمية، إنّه "ليس زلزالاً عادياً، بسبب وعورة تضاريس المنطقة المنتمية جغرافياً لجبال الأطلس الكبير التي تضمُّ قمماً شاهقة، من بينها قمة جبل توبقال التي يتجاوزُ علوه أربعة آلاف متر عن سطح البحر، كما أنّ القرى التي ضربها الزلزال منتشرة في مناطق عديدة تقارب مساحتها مئة ألف كيلومتر مربع".
ويضيف صدقي لـTRT عربي، أنّ صعوبة التدخل كانت متوقعة في الأيام الأولى على كل الدول، أما في المغرب فوعورة التضاريس لا تسمحُ بنقل المعدات الثقيلة، لذا فإنّ ما قامت به فرق الإنقاذ المغربية، هو ما كان يجبُ القيام به لاحتواء الأزمة وتخطيها.
مساعدات الحلفاء.. فرنسا ليست منهم
بعد التعرف على آثار الدمار الذي ألحقه الزلزال، سارعت مجموعة من الدول لعرض مساعدتها على المغرب، إلّا أنّ الحكومة المغربية ارتأت التريث وعدم إدخال أي مساعدات أجنبية في اليوم الأول، لتقبل لاحقاً بإدخال مساعدات وفرق إنقاذ من أربع دولٍ فقط وهي قطر وإسبانيا والإمارات وبريطانيا، وغابت فرنسا عن قائمة هذه الدول، ما جعل أسئلة عديدة مرتبطة بالأزمة المغربية الفرنسية من جهة، وكذا خفوت الحضور الفرنسي في القارة الإفريقية من أخرى تطفو على السطح مجدداً.
وفي هذا الصدد يقول محمد المدني، الباحث المغربي في العلاقات الدولية، إنّ المغرب يثمن مبادرات الدول والشعوب التي تعاطفت مع المغرب في أزمته.
ويضيف لـTRT عربي، أنّ الدولة المغربية كان لزاماً عليها أن تقيّم الوضع قبل فتح باب إدخال المساعدات، حتى لا يتحول إدخالها إلى عائق وتحدٍّ جديد يحولُ دون مساعدة ضحايا زلزال الحوز، وما وقع في هايتي وإندونيسيا اللتين واجهتا صعوبات في تدبير مساعدات أزمة الزلزال دليل على ذلك.
وتحدث الدكتور عبد الإله العبدي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس بالرباط، حول أسباب فتح باب المساعدات لأربع دول فقط وغياب فرنسا، مشيراً إلى أنّ "هناك شيئاً في العلوم السياسية يدعى السيادة".
ويلفت العبدي في حديثه مع TRT عربي، إلى أنّ "زمن فرنسا في إفريقيا قد ولّى، وحضورها لن يفيد كثيراً المغرب في تدبير أزمته، وخاصةً أنّ فرنسا لا تتمتعُ بخبرة استثنائية في الزلازل، كما أنّ توتر العلاقات بين البلدين قبل زمن الزلزال جعل عدم فتح باب دخولها للمغرب أمراً متوقعاً ومنطقياً، ويجب على الساسة الفرنسيّين احترامه، بدل استغراب عدم قبول المساعدة المقدمة من طرفهم".
ماكرون يخاطب المغاربة
وخاطب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المغاربة في مقطع مصور نشر على حسابه في موقع "X"، تويتر سابقاً، يوم 12 سبتمبر/أيلول، ليخبرهم عن مدى جاهزية فرنسا لتقديم المساعدات للمغرب جرّاء الزلزال الذي ضرب أقاليمه، وأنّه مستعدٌّ أن يشارك المغرب بالخبرة الفرنسية.
وأجّج هذا الخطاب النقاش الداخلي في المغرب مجدّداً بدل ما أراده الرئيس الفرنسي من نفي لأزمة بين العاصمتين، وجعل شريحة واسعة من المغاربة تتساءل عن سبب حرص وإلحاح السلطات الفرنسية على مساعدة المغرب في أزمة الزلزال التي ضربت أقاليمه، وكذا مشروعية مخاطبة رئيس دولة أجنبية لشعب غير شعبه، بدل التواصل المباشر مع قيادته.
كما أنّ أخباراً، أكدتها وزيرة الخارجية الفرنسية، قالت إنّ الرئيس الفرنسي حاول الاتصال المباشر بالملك محمد السادس، الذي اكتفى بتبادل الرسائل الهاتفية القصيرة معه. ورغم تقليل البعض من هذه النقطة إلّا أنّها بدت تعبيراً عن "برود" العلاقة بين الطرفين.
ويلفت أحمد بوجداد، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة محمد الخامس في الرباط، إلى أنّ توجُّه الرئيس الفرنسي بالخطاب إلى المغاربة عبر منصات التواصل الاجتماعي "لا شرعية ولا مشروعية له".
ويضيف بوجداد لـTRT عربي، أنّه رغم فداحة المصاب الذي تعرض له المغرب جراء الزلزال فهذا لا يغيرُ شيئاً من أنّ المخوّل له مخاطبة المغاربة هو ملك المغرب باعتباره رئيس الدولة، وفق الدستور المغربي، والملك خاطب المغاربة بلغة الأفعال، وهناك رضى كبير للسياسة التي اتبعها محمد السادس تجاه أزمة الزلزال، سواء بخصوص احتواء الأزمة أم سياسة إعادة الإعمار.
ويتابع القول: "لا يفقد خطاب ماكرون المشروعية فقط، بل يجعلنا نتساءل عن مدى صدق النيات الرامية لمساعدة المغرب، وخاصة أنّ المغرب فتح حساباً بنكياً أمام كل من يريد المساعدة في الزلزال، أما التوجه لجمعيات المجتمع المدني فهو دليل على إرادة فرنسا تخطي الدولة المغربية، وبالطبع الجمعيات المغربية (المنظمات الأهلية) لها كل الحق في تلقي الدعم الدولي ولكن في إطار قانون الجمعيات المغربي".
الإعلام الفرنسي وزلزال المغرب
وأثارت طريقة تغطية قطاع واسع من الإعلام الفرنسي للزلزال استياء المغاربة من السياسة الفرنسية تجاه الأزمة، فقد حاولت بعض الصحف مثل "ليبراسيون" والقنوات الفرنسية إظهار المغرب كأنّه "عاجز" عن احتواء الزلزال الذي ضربهُ، مروّجة أنّ الرباط "رفضت" قبول مساعدة باريس لتجاوز مخلفات الزلزال، على حساب شعبها.
ورغم أنّ المغرب لم يعلن عن رفضه لتلك المساعدات، وأوضح مسؤولون عدّة أنّ المسألة تتعلق بالتنسيق وبحاجيات المملكة، فإنّ بعض المنابر الإعلامية "تمادت" في تعاطيها مع زلزال الحوز منتقدة السلطات المغربية.
ويقول كمال البريقاع، المختص المغربي في قضايا الإعلام، إنّ "فرنسا وظّفت جهازها الإعلامي بشكل منهجيّ للترويج بأنّ المغرب أساء التصرف في تعامله مع الزلزال بسبب رفضهِ المساعدات الفرنسية".
ويشير البريقاع في حديثه مع TRT عربي، إلى أنّ باريس "وظّفت في ذلك أدوات غير نزيهة مثل جريدة شارلي إيبدو التي لها تاريخ سيئ مع المجتمعات المسلمة، إذ سخَرت من العاهل المغربي محمد السادس برسومات كاريكاتورية غايتها التشكيك من فاعلية السياسة المغربية تجاه الزلزال".
ويضيف، أنّ "هجمات الإعلام الفرنسي وصلت إلى حدّ تمرير بعض الرسائل السياسية على لسان بعض الفنانين والمؤثرين المغاربة في فرنسا، وكمثال على ذلك ما وقع مع الكوميدي المغربي الشهير جاد المالح، إذ حاولت إحدى الحاضرات في حلقة نقاشية بثتها قناة "فرانس 5" جعله يقول إن مزدوجي الجنسية متضرّرون من النزاع المغربي الفرنسي، ليستدرك المالح قائلاً: إنّهُ مغربي مهاجر في فرنسا، ويشيد بإدارة السلطات المغربية للأزمة".
ويؤكد أنّ "الخلاصة من هذه الواقعة وغيرها، أنّ الإعلام الفرنسي وظّف زلزال الحوز كسلاح للضغط على المغرب، لأنّه انتصر في تحدي تدبير أزمة الزلزال من دون فرنسا، وهو ما جرح كبرياءها"، بحسب تعبير البريقاع.