وذلك بعد الارتفاع القياسي لعجز الميزانية، وعدم قدرة الحكومة على الإيفاء بتعهداتها المالية للدائنين في الخارج، ما بات يهدّد استقلالية قرارها السيادي، ويجعلها رهينة إملاءات مؤسسات مالية دولية.
أعلن وزير المالية والاقتصاد علي الكعلي ذلك صراحة أمام البرلمان خلال جلسة عامة، قائلاً إن البلاد بحاجة إلى الاقتراض مجدداً، لا للاستثمار بل لتسديد ديونها ولمواصلة صرف الجرايات ومنح التقاعد، مؤكداً أن القيمة الإجمالية للقروض التي وقعت برمجتها في ميزانية 2021 تقدر بنحو 18.4 مليار دينار، أي نحو 6 مليارات دولار.
قدّر خبراء في الاقتصاد أن تتجاوز نسبة الدين الخارجي لتونس مئة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل 30.3 مليار دولار، وهو ما يعني أن كل مواطن تونسي عليه دين يقدَّر بـ10 آلاف دينار، أي 3 آلاف دولار.
إفلاس غير مُعلَن
تقول الخبيرة في الشأن الاقتصادي جنات بن عبد الله في تصريح لـTRT عربي، إن "تخفيض وكالة موديز الأمريكية التصنيف الائتماني للاقتصاد التونسي إلى B3 مع آفاق نمو سلبية، زاد تعميق الأزمة المالية للبلاد، وبعث برسالة سلبية إلى الدائنين في الخارج، بأن تونس غير قادرة على التزام تعهُّداتها المالية وتسديد ديونها وباتت عاجزة عن خلق الثروة وتوفير مناخات استثمار آمنة".
تؤكد بن عبد الله أن تونس باتت في وضع إفلاس غير مُعلَن، وأنه لم يعُد لها من خيار سوى الخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي الذي تعوّل عليه الحكومة لإنقاذ المالية العمومية في الداخل وتسديد ديونها المالية في الخارج، وتحذّر الخبيرة الاقتصادية في المقابل من التداعيات الكارثية لتنفيذ تونس برنامج الإصلاحات الهيكلية التي طالب بها صندوق النقد الدولي، ومنها الضغط على كتلة الأجور، ومنع الانتدابات في الوظيفة العمومية، ورفع الدعم عن المحروقات والموادّ الأساسية، ورفع نسبة الفائدة، بما يعني حسب توصيفها "مزيداً من تفقير الشعب التونسي وتدمير منظومة الإنتاج وفقدان السيادة والقرار الوطني بالكامل".
رحلة واشنطن
تعلّق حكومة هشام المشيشي آمالاً كبيرة للخروج من أزمتها المالية الخانقة وسداد ديونها على رحلة واشنطن مطلع الشهر القادم، للتفاوض مع صندوق النقد الدولي حول خطة الإصلاح الاقتصادية والاجتماعية التي يطالب بها مجلس إدارة الصندوق منذ مدة.
رحلة التفاوض مع صندوق النقد الدولي التي سيذهب فيها رئيس الحكومة إلى واشنطن برفقة وفد وزاري رفيع المستوى، مطلع الشهر القادم، استبَقها هشام المشيشي بماراثون من المشاورات مع المنظمات الوطنية (اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة) ومع قيادات سياسية من الحزام البرلماني الداعم له، إضافة إلى ثلة من الفاعلين الاقتصاديين في ما بات يُعرف بـ"مشاورات بيت الحكمة"، بهدف وضع خطة للإنعاش الاقتصادي وإصلاح المؤسسات العمومية ومنظومة الدعم وعرضها على المانحين الدوليين.
السيناريو اليوناني
وفي هذا الإطار يقول محمد صادق جبنون، الناطق الرسمي باسم حزب قلب تونس الداعم للحكومة، في تصريح لـTRT عربي، إن "الوفد الحكومي الذي سيسافر إلى واشنطن، سيطرح أمام صندوق النقد الدولي خطة إصلاح اقتصادية واجتماعية هيكلية وشاملة، مقابل الحصول على دعم مالي تعوّل عليه الحكومة لإنعاش اقتصادها وإنقاذ المالية العمومية".
ويضيف: "تونس وصلت اقتصادياً إلى الرمق الأخير في ظلّ مؤشرات سلبية، منها 9% نسبة نموّاً سلبيّاً و16.5% نسبة العجز في الميزانية، إضافة إلى أنه لا آفاق حقيقية لتحسين مناخ الاستثمار في ظلّ تعطُّل نسق التلاقيح ضد فيروس كورونا، وشحّ تمويل البنوك للمؤسسات".
يشير جبنون إلى أن تونس ستحتاج خلال هذه السنة إلى ما بين 18 و23 مليار دينار لتمويل ميزانية 2021 دون اعتبار الميزانية التكميلية، محذراً من الأعباء والمصاريف الإضافية التي ستتحملها في ظل ارتفاع أسعار المحروقات وارتفاع نسبة الفائدة على الديون لتتجاوز 11% بعد أن كانت في حدود 3%.
ويعوّل القيادي في حزب قلب تونس على تجاوز القيادات السياسية والأحزاب في تونس خلافاتهم السياسية، والجلوس إلى طاولة واحدة من أجل الحوار ودعم الحكومة في مشروعها الإصلاحي بهدف إقناع المانحين الدوليين، لافتاً إلى أن موافقة صندوق النقد الدولي على دعم تونس سيكون بمثابة طوق نجاة وبوابة أمل جديدة ستنعش الاقتصاد وتُعيد مناخات الثقة إلى المستثمرين الأجانب وإلى الدائنين، لكنه حذّر في المقابل من أن فشل التفاوض مع المؤسسة الدولية المالية ستكون له عواقب كارثية على تونس، ليست أقل من السيناريو اليوناني.
مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا كانت وجهّتَ الجمعة الماضية رسالة إلى رئيس الحكومة هشام المشيشي، أكدت فيها أن مؤسستها ستبقى شريكاً موثوقاً لتونس، مثمّنة سلسلة الحوارات التي أجرتها الحكومة مع المنظمات الوطنية والفاعلين الاقتصاديين حول برنامج الإصلاحات المبرم تنفيذها لإنعاش الاقتصاد وعرضه على أنظار صندوق النقد الدولي.
خطوة ذهاب الحكومة التونسية نحو صندوق النقد الدولي مطلع الشهر القادم للتفاوض والبحث عن الدعم المالي، التي وصفها خبراء بالمصيرية لإنقاذ المالية العمومية واستعادة ثقة الدائنين، يراها وزير المالية السابق والخبير الاقتصادي حكيم بن حمودة ضرورية لكن غير كافية، في مقال اقتصادي مطوَّل له عبر صحيفة "المغرب" المحلية.
يقول بن حمودة إن الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي يتطلب وقتاً وجهداً في وقت تستدعي فيه الوضعية المالية الدقيقة لتونس حلولاً آنية مستعجلة، وهو ماقد ينذر بانهيار مالي وشيك، كما يؤكّد في المقال ذاته أن الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد أعمق من مجرد إخلالات في المالية العمومية، مشيراً إلى ضرورة ضبط برنامج شامل لدفع الاستثمار وإنقاذ المؤسسات العمومية.
يُجمِع عديد من الخبراء في الشأن الاقتصادي وحتى السياسي، على أن حل الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، وإبعاد شبح الإفلاس، يبدأ في جزء كبير منه بتوفير أرضية حوار سياسي مفقودة حالياً بين الأحزاب في الحكم والمعارضة من جهة، والرئاسات الثلاثة (البرلمان والحكومة والجمهورية) في ظل رفض رئيس الجمهورية قيس سعيد المبادرة التي طرحتها منظمة اتحاد الشغل لإجراء حوار سياسي واقتصادي واجتماعي شامل.
وكانت أحزاب سياسية على غرار حزب قلب تونس وحركة النهضة عبّرَت في بيانات رسمية عن انشغالها العميق من استمرار الوضع السياسي القائم في البلاد، في ظلّ أزمة اقتصادية ووبائية خانقة، مجدّدةً دعوتها إلى ترك الخلافات جانبا وجلوس الجميع إلى طاولة الحوار لإنقاذ البلاد من شبح الانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.