سنة 1973 أسس رجل إيطالي يُدعى سيلفيو برلسكوني شركة إنتاج تلفزيون الكابل باسم Telemilano, شركة صغيرة بتقنية حديثة آنذاك أسهمت في إدخال عديد من المستثمرين إلى إيطاليا عبر عروضها التجارية، ما جعلها محطة انتقال هامة في مسيرة الرجل، مؤسساً بعدها المجموعة الإعلامية الكبرى Fininvest عام 1978 والتي تحتوي على محطات تلفزيونية محلية عدة في جميع أنحاء البلاد، ليصل به الأمر إلى شراء شبكتين وطنيتين خاصتين، إيطاليا 1 في 1982 وRete 4 في 1984 ليلقب برلسكوني بإمبراطور الإعلام في إيطاليا.
اكتساحه مجال الإعلام مكّنه من تمرير أفكاره ورؤاه إلى عموم الناس عبر ظهوره بين الحين والآخر بصورة الملياردير المرح صاحب الرؤية التنموية للبلاد الذي اقتحم مسالك اقتصادية وتجارية عدة على غرار العقارات وتنظيم محافل البونغا بونغا الراقصة التي يحضر فيها أكبر أثرياء العالم وزعمائه.
كلها عوامل مهدت لبرلسكوني أن يكون الرقم الأول في إيطاليا، ويصبح رئيساً للوزراء بعد اكتساحه الانتخابات البرلمانية سنة 1994، على الرغم من كل ما لاحقه من شبهات فساد مالي وتبييض أموال وبخاصة الشبهات المتعلقة بارتباطه بعصابات المافيا.
برلسكوني تونس
استناداً إلى هذه المسيرة "الموجزة" في كيفية وصول سيلفيو برلسكوني إلى السلطة عنونت صحيفة فيننشال تايمز البريطانية مقالا لها بـ"برلسكوني تونس يشارك في سباق الانتخابات من السجن" في إشارة إلى المترشح للانتخابات الرئاسية التونسية لسنة 2019 نبيل القروي صاحب القناة التلفزيونية والشبكة الإعلامية نسمة.
وبذكر مشروع نسمة فإننا هنا لا نستحضر تجربة Telemilano فقط، لأن ما يربط القروي ببرلسكوني ليس مجرد بدايات تجربة مشابهة فحسب، فنبيل القروي هو الصديق الحميم لسيلفيو برلسكوني.
صداقة وصلت إلى حد الشراكة في مشروع نسمة عبر شركة Mediaset التي تمتلك نصيباً من الأسهم في نسمة، وهي الشركة التي يملك فيها برلسكوني 35%، حسب تصريح سابق لنبيل القروي في صحيفة الشروق التونسية في شهر أغسطس/آب 2011.
القروي والفساد المالي
أوقف نبيل القروي يوم 23 أغسطس/آب 2019 بتهمة تبيض الأموال والتهرب الضريبي بعد قضية قدمتها منظمة أنا يقظ، وهي منظمة تأسست بعد الثورة تضم مجموعة من الشباب وتعرّف نفسها كمنظمة رقابية غير ربحية ومستقلة تهدف إلى مكافحة الفساد المالي والإداري ودعم الشفافية.
وكانت أولى القضايا التي رفعتها المنظمة ضد القروي بعد أن فجّر بنك الإسكان قنبلة بنشره تقريراً يضم قائمة بالمؤسسات التي تجاوزت مديونيتها للبنك مليون دينار أي ما يناهز 350 ألف دولار حتى 2010، ومن بين المؤسسات شركة نسمة برودكست المملوكة لنبيل القروي، التي حولت إليها مبالغ مريبة تجاوزت مليوني دينار (701 ألف دولار)، ما جعل المنظمة تصر على التقصي أكثر في شبهات الفساد حول القروي.
مجهودات أنا يقظ لم تكلل بالفشل. فقد تحصلت على نسخ من تقارير مراقب الحسابات لشركة نسمة برودكست لسنوات 2011 و2012 و2013 والمتعلقة بالقوائم المالية للشركة، إذ تثبت هذه التقارير التي نشرها موقع المنظمة الوضعية المالية المريبة لشركة نسمة وعمليات التحايل التي تمارسها على البنوك التونسية وإدارة الجباية وصندوق الضمان الاجتماعي، في ظل الديون المتراكمة التي وصلت في بعض الأحيان إلى أكثر من 36 مليون دينار (12.5 مليون دولار) في حين أن رأس مال الشركة لا يتجاوز 2.5 مليون دينار.
وتضيف المنظمة أن المفاجئ في هذه التقارير هو أن أغلب الديون تجاه شركات مرتبطة بنبيل القروي وأخيه غازي سواء في تونس أو في الخارج، وهو ما يطرح فرضية أن شركة نسمة تقوم بتهريب مرابيحها إلى الخارج.
القروي والطريق إلى قرطاج
يحتل نبيل القروي منذ أشهر قبل موعد الانتخابات المرتبة الأولى في جل استطلاعات الرأي التي تقوم بها الشركات الخاصة وحتى الأحزاب الكبرى على غرار الاستطلاعات الداخلية لحركة النهضة بنسبة تتراوح بين 16% و20% وهي النسبة التي استقر في حدودها منذ اعتقاله الذي أدى إلى اكتسابه مزيداً من التعاطف مبتعداً بفارق كبير عن شتى خصومه.
وعلى الرغم من تشكيك العديد سيما من العناصر السياسية في مصداقية هذه النسب وفي شعبية القروي الوهمية على حد تعبيرهم، فإن المتابع لماكينة الرجل الإعلامية والخيرية سيرى أن هذه النسب لا يمكن أن تكون من فراغ أو محض صدفة.
ففضلاً عن تسويقه لنفسه ولرؤاه عبر آلته الإعلامية من قبل الثورة إلى الآن، فقد ركز القروي خطابه وجهده نحو فئة واحدة من الشعب وهي الفئة الهشة اجتماعياً عبر مشروع خليل تونس، نسبة إلى خليل ابنه الذي توفي في حادث سير. وهو مشروع خيري يقوم على إرسال قوافل مساعدات للجهات المهمشة مرفقة بتغطية تلفزيونية. وهي مناطق تقع معظمها في الأرياف وأحواز المدن الكبرى مركّزاً بخاصة على الجغرافيا الانتخابية التي صوتت لحزبه السابق "نداء تونس" وهي جهة الشمال الغربي وقرى الداخل كأرياف القصرين وقفصة والكاف.
قوافله الخيرية أصبحت على مدى ثلاث سنوات محط اهتمام الفقراء والمحتاجين، حتى إن بعض القرى أصبحت تنتظر مجيئه بفارغ الصبر، والبضاعة التي يقدمها لم تقتصر على المواد الغذائية والأغطية فحسب، بل عمد إلى توزيع هواتف جوالة على العائلات قدّرت بعض المصادر عددها بـ30 ألف هاتف خلوي مع شحن شهري، وخصص مركز اتصالات يتصل بهم كل حين ليطمئن عليهم، مذكراً إياهم باسم "سي نبيل" الذي أصبح الاسم الأول لدى الفئات الهشة.
وعلى الرغم من قبوعه في سجن المرناقية فإن اعتقاله لم يمنع الهيئة من وضع اسمه ضمن قائمة 26 مترشحاً للانتخابات الرئاسية، نظراً إلى عدم مصادقة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي على القانون الانتخابي الذي يمنع أصحاب المؤسسات الإعلامية والجمعيات الخيرية من التقدم للانتخابات الرئاسية والتشريعية، وهو ما اعتبره مراقبون انقلاباً على الدستور سيكلف البلاد تبعات خطيرة حسب رأيهم.
ويُرجع العديد من المراقبين عدم توقيع القانون إلى الحالة الصحية الحرجة التي حالت دون إمضاء السبسي عليه في آخر أيام حياته، فيما يُرجعه البعض إلى أن مستشاري الرئيس حالوا دون إمضائه عليه. ولعل هذا ما أشار إليه رئيس الحكومة والمترشح للرئاسيات يوسف الشاهد في أحد لقاءاته التلفزيونية الأخيرة، ملمحاً بأن السبسي لا يمكن أن يخرق الدستور إنما من فعل ذلك هم المحيطون به.
يوسف الشاهد.. والضفة الأخرى للحرب
لم يكن اعتقال القروي إجراءً قضائياً نزيهاً حسب ما يراه عديد من المراقبين للمشهد السياسي في تونس، بل كان حسب اعتبارهم اعتقالاً في ميقات سياسي بامتياز، ما جعل أصابع الاتهام تتجه سريعاً صوب رئيس الحكومة يوسف الشاهد، متهمة إياه بتحريك أيدي القضاء والأمن لاعتقال غريمه في السباق الرئاسي، سيما في التنافس على افتكاك الجزء الأكبر من القاعدة الانتخابية للنداء التاريخي (حزب نداء تونس 2014 الذي جمعهما معاً).
إلا أن الأدلة على الشاهد بقيت شحيحة إلى حين تحرك آلة إعلامية أخرى يقودها السجين السابق في قضايا تتعلق بالفساد المالي سامي الفهري صاحب قناة الحوار التونسي، الذي صرح إبان اعتقال القروي بأن اسمه مدرج في لائحة الاعتقالات، وأن موعد اعتقاله سيكون في أكتوبر/تشرين الأول 2019 .
تحرُّك الفهري جاء عبر بث حوار مع رجل الأعمال الهارب من البلاد والمرشح هو الآخر للرئاسيات سليم الرياحي الذي تتعلق به قضايا تهرب ضريبي وفساد مالي. لقاء دشّنه الفهري باستعراضٍ شبّهه المشاهدون بأنه مشهد مافيوزي، إذ نزل الفهري بعد جولة فوق الجزر والمناطق الفارهة على متن طائرة هيليكوبتر إلى حديقة قصر سليم الرياحي في منفاه الاختياري في فرنسا.
اللقاء الذي تضمن مبالغ مكوكية استعرضها الرياحي حول ممتلكاته وصفقاته مع الأحزاب وأصحاب النفوذ في البلاد, مبالغ أقل ما يقال عنها إنها كفيلة بحل أزمة التنمية والجهات المفقّرة في تونس. تطرق فيه الرياحي إلى نفوذ يوسف الشاهد وسطوته على مفاصل بأكملها في القضاء والأمن مستشهداً في حديثه بإرساليات وأسماء تعمل لصالح الشاهد.
يأتي حديث الرياحي في إطار السعي لكسب طرف سياسي جديد يخدم مصالحه ويسوي ملفاته العالقة في المحاكم بعد يقينه بأن يوسف الشاهد "غدره" ولن يعيده إلى تونس على حد تعبيره.
أما الفهري فلم يتوقف عند هذه المحطة لضرب صورة الشاهد، بل مضى قدماً في ذلك عبر نشره تصريحاً لهيئة الانتخابات يقضي بإجراء حوار تلفزيوني مع نبيل القروي داخل سجن المرناقية، في خطوة خطيرة تؤثر على الرأي العام قبيل الانتخابات، وتصب بدورها في لعبة اصطفاف اللوبيات المكشوف، الذي ينذر بحرب تصفية حسابات بعد الانتخابات.
وبعيداً عن الرياحي والفهري يرى كثيرون أن الشاهد هو الورقة الأخطر في هذا السباق الانتخابي بعد دخوله الرهان على قصر قرطاج والبرلمان عبر حزبه تحيا تونس الذي انبثق عن نداء تونس.
أما خطورة الرجل فتكمن في تطويعه لعصابات المال الفاسد بعد شنه ما تسمى "الحرب على الفساد" التي أدت إلى اعتقال العديد من رجال الأعمال البارزين المتهمين بالتهريب والفساد المالي والتهرب الضريبي.
حرب كان عنوانها شفيق الجراية، رجل الأعمال والسياسي الذي دفع الثمن كأبرز اسم معتقل، في حين لم يقبع باقي الفاسدين كثيراً في السجن على غرار المكنى "وشواشة" زعيم مسالك التهريب في الجنوب، ونجيب إسماعيل صاحب أكبر مخازن الفواكه الجافة، وفتحي جنيح وعلي جنيح وهما من أبرز رجال أعمال الساحل، وشكري الشنيتي المهيمن على قطاع الملابس المستعملة، وغيرهم ممن خرجوا من السجن قبيل الحملة الانتخابية خدماً طائعين للشاهد كما يرى مراقبون.
إلا أن أبرز القضايا التي تحسم أن الشاهد يحارب الفساد جهرة ويحميه سراً كانت قضية رفع التجميد عن أموال مروان المبروك صهر الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، التي تقدر بـ97 مليون دينار (33 مليون دولار). وهي واقعة قدمت فيها منظمة "أنا يقظ" قضية تدين يوسف الشاهد في إجراء صفقة فساد مع المبروك، ليتساءل البعض "لماذا لم يتحرك القضاء مع الشاهد كما تحرك مع القروي؟".
ولعل الحملة الانتخابية على أرض الميدان اليوم تدل على أن ماكينة الشاهد بمواردها المالية هي الأكثر قدرة على تجنيد الناس، والأكثر بروزاً على مستوى الإمكانيات كالوسائل الإعلامية واللافتات الإشهارية الكبرى والقاعات والمناشير والشباب المجندين للترويج له. فضلاً عما يروج عن الدعم الذي تتلقاه حملته من بارونات المال في الساحل كآل جنيح وآل إدريس.
السباق إلى قرطاج
على عكس انتخابات 2014 التي شهدت استقطاباً ثنائياً من أجل الوصول إلى الحكم، وصراعاً بين الماكينات الحزبية الحاشدة للجماهير, يبدو المشهد السياسي اليوم في تونس مغموراً لا بقوة الماكينات الحزبية إنما بقوة المال الفاسد.
ولعل هذا ما أوحى به المترشح عبد الفتاح مورو عن حركة النهضة حينما سئل في برنامج الرئيس على قناة الحوار التونسي عن الوسيلة التي يصل بها المترشح اليوم إلى الحكم، مجيباً بأن "رزمة المال قد تكون أقوى من أعتى الماكينات الحزبية". فهل تكون تونس في قادم الأيام محطة جديدة لظهور ترمب أو برلسكوني جديد؟.