بعد استماعها لمرافعات عدد قياسي من إفادات دولية خلال الفترة ما بين 19 و26 فبراير/شباط الجاري، شرعت محكمة العدل الدولية في مداولاتها بخصوص التبعات القانونية الناشئة عن سياسات إسرائيل وممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وقدمت 50 دولة عضواً في الأمم المتحدة بينها فلسطين و14 دولة عربية أخرى، و3 منظمات دولية (الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والاتحاد الأفريقي) بيانات شفهية أمام المحكمة الدولية، حسب موقع الأمم المتحدة.
وقالت المحكمة في بيان صحفي إنها ستبدأ الآن مداولاتها وستعلن الفتوى (الرأي الاستشاري) في جلسة علنية تحدد موعدها لاحقاً.
يُشار إلى أن إسرائيل لم تشارك في جلسات الاستماع، لكنها قدمت نصاً منتصف عام 2023 حضّت فيه المحكمة على رفض إصدار رأي بشأن القضية.
وفي 30 ديسمبر/كانون الأول 2022، طرحت الجمعية العامة للأمم المتحدة على محكمة العدل الدولية سؤالين يتعلقان بشرعية احتلال إسرائيل لفلسطين منذ حرب 1967 وانتهاكاتها المستمرة، بناءً على المادة 65 من النظام الأساسي للمحكمة.
وتختلف هذه الدعوى عن تلك التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل بتهمة انتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية في قطاع غزة، التي تعني منازعة قضائية بين بلدين، في حين أن جلسات الرأي الاستشاري لا تمثل قضية تتواجه فيها دولتان.
دعوة لمحاسبة إسرائيل
وشهد اليوم الأخير من الجلسات مرافعة تركيا، إذ شدد نائب وزير خارجيتها أحمد يلدز، على ضرورة محاسبة إسرائيل على كل ممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، داعياً إلى إعلان تصرفاتها "انتهاكاً للقانون الدولي".
وأكد يلدز أن انتهاكات إسرائيل في فلسطين لا تقتصر على القدس وحدها، إذ إنها هدمت المنازل واستولت على الأراضي وانتهكت حقوق الإنسان الفلسطيني، لافتاً إلى أن عام 2023 كان العام الذي ارتُكبت فيه أكبر أعمال العنف من المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
وأشار إلى أن أحد الأبعاد الأساسية للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني يتعلق بعدم احترام قدسية الأماكن المقدسة ووضعها التاريخي، قبل أن يؤكد في كلمة بعد المرافعة أن موقف تركيا إزاء فلسطين يتميز عن الدول الأخرى مثل جنوب إفريقيا وغيرها، بأنه لعنصر إقليمي في هذا الخصوص، مثل مصر والأردن.
بدورها أكدت ممثلة مصر أمام العدل الدولية أن "سياسة الاستيطان الممنهج للأراضي المحتلة تهدف إلى تغيير تركيبتها السكانية وتعزيز اليهود فيها لضمها لاحقاً بحكم الأمر الواقع"، فيما اعتبرت ممثلة الإمارات أن انتهاكات إسرائيل في غزة والضفة والقدس تعرقل حل الدولتين.
وبرز أيضاً موقف الصين أمام المحكمة، وقال ممثلها إن المقاومة المسلحة حق للشعوب المستعمَرة لا يتناقض مع القانون الدولي، وإنه ليس من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها كون احتلالها للأراضي الفلسطينية غير قانوني.
ودعت معظم الدول إسرائيل إلى إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية، لكن الولايات المتحدة دافعت عنها، وقال ممثلها إن المحكمة يجب ألا تخلص إلى أن إسرائيل ملزمة قانوناً الانسحاب الفوري وغير المشروط من الأراضي المحتلة، وهو موقف مشابه اتخذته بريطانيا، مشيرة إلى أنه لا يجب حل الخلافات بين إسرائيل وفلسطين في إطار الوظيفة الاستشارية للمحكمة.
دلالات أبرز المرافعات
ويقول أستاذ القانون الدولي في جامعة القدس الدكتور منير نسيبة إن مشاركة هذا العدد القياسي من الدول يعبّر عن استياء المجتمع الدولي من سلوك الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدما وصلت انتهاكاته إلى جريمة الإبادة الجماعية وهي أغلظ جريمة من جرائم القانون الدولي.
ويوضح نسيبة في حديثه مع TRT عربي أن الصلف الإسرائيلي في استهداف الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وقتله وتدمير البنية التحتية شجّع الدول على التدخل لإنهاء معاناة الفلسطينيين أو جزء منها واستخدام المحكمة منصةً لتوضيح مدى مخالفة إسرائيل للقانون الدولي في احتلالها للأرض الفلسطينية.
وكان لدول مختلفة مواقف مهمة في المداخلات، وفق خبير قانون الدولي الذي أكد أن المرافعة الفلسطينية كانت قوية، وشملت مجموعة من الحقوق منها ارتكاب الاحتلال الإبادة الجماعية، وهو ما ركزت عليه جنوب إفريقيا.
وأثنى نسيبة على مداخلة تركيا ووصفها بالقوية لأنها وضحت أن حق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير ينتهكه الاحتلال بشكل مستمر، وأن هذا الاحتلال مخالف للقانون وينتهك عدداً كبيراً من الحقوق الفلسطينية، وأن الضم مخالف للقانون الدولي.
ويضيف أن موقف الصين حول الحق بالمقاومة في ظل الاحتلال وإعطائه مساحة من المرافعة كان مميزاً، وهو متماشٍ مع رؤية المجتمع الدولي لحقوق الشعوب وتطبيقها لحق تقرير المصير، مبيناً أن دول كثيرة تحدثت عن ذلك وهو الذي ينتهكه الاحتلال.
واعتبر نسيبة مرافعة الأردن موفقة بسبب تركيزها -بحكم الوصاية الهاشمية- على المسجد الأقصى والانتهاكات الإسرائيلية للمقدسات، مشيراً إلى أنه كان من المهم تركيز عمّان عليها لأنها تظهر انتهاك إسرائيل المستمر الوضع القائم للمسجد ومحاولة تهويده.
وفي المقابل، كان موقف واشنطن ولندن سلبياً لأنهما -حسب نسيبة- حاولتا حمل المحكمة على عدم إصدارها رأياً استشارياً، مدّعين أن مواضيع هذه القضية تفاوضية وعلى الفلسطينيين الجلوس على طاولة المفاوضات مع الاحتلال في وقت لا يريد الأخير التفاوض، مضيفاً أنهما تريدان استمرار الهيمنة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني للأبد وإدامة الاستعمار ومساندته.
ماذا عن رأي المحكمة؟
يعتقد نسيبة أن تعلن المحكمة الدولية أن الاحتلال للأرض الفلسطينية عام 1967 مخالف للقانون الدولي وينتهك سيادة الأراضي الفلسطينية وعليه أن ينتهي فوراً، وأن تعلن أن الاحتلال أقام نظاماً للفصل العنصري في الأرض الفلسطينية المحتلة.
ويتوقع خبير القانون الدولي أن تعلن المحكمة أن دول العالم عليها التزام قانوني ألا تعترف بالنتائج التي أفرزها هذا الاحتلال، التي يعدّها القانون الدولي لاغية وباطلة، فضلاً عن إعلان متوقع للمحكمة بأن الاحتلال عليه التزام لجبر الضرر للشعب الفلسطيني في جميع الانتهاكات التي ارتكبها.
وحول حضور إسرائيل دعوى الإبادة الجماعية وغيابها عن قضية الرأي الاستشاري، يوضح أن الدعوى الأولى مبنية على معاهدة منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها التي صادقت عليها إسرائيل ووافقت على جميع بنودها بما فيها البند التاسع الذي يسمح للدول أن تتقاضى أمام العدل الدولية إذا نشب بينها نزاع، لذلك رأى الاحتلال بأن من مصلحته أن يدافع عن نفسه.
أما قضية الرأي الاستشاري فليست ملزمة -وفق نسيبة- وطلبتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا يريد الاحتلال المشاركة فيها حتى لا يظهر بأنه مضطر إلى التزام ما يخرج عنها.
تداعيات قانونية ودولية
ويؤكد نسيبة ألا علاقة رسمية بين القضيتين ولكن ستؤثر على بعضها، لأن "ملف الاحتلال يعطي سياقاً أوسع تعجز قضية الإبادة الجماعية عن تقديمه لأنها خاصة بما يحدث في قطاع غزة"، مشيراً إلى أن القضاة سيكون لديهم الفرصة لفهم ما يحدث في فلسطين بسبب الاحتلال وممارساته وفصله العنصري، وقد يؤثر في قرارهم بالإبادة الجماعية.
ويتابع القول: إسرائيل أمام محكمة العدل تواجه قضيتين إحداهما ملزمة، كما توجد تحقيقات بجرائمها في قطاع غزة بمحكمة الجنايات الدولية.
ويبيّن الخبير القانوني أن جدار الإفلات من العقاب الذي بنته وشيدته حول إسرائيل الولاياتُ المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي ودول ومنظمات أخرى يُكسر الآن، ولن يستطيع هذا الاحتلال أن يستمر بالإفلات من العقاب إلى الأبد، لافتاً إلى أن "وقت الإدانات انتهى، وبدأ وقت العقوبات والإجراءات العملية".
ويستدل على ذلك بقرار محكمة داخلية هولندية منع حكومة البلاد تصدير قطع غيار طائرات "إف-35" إلى الاحتلال بخلاف رأي الحكومة، فضلاً عن تحركات حقوقية في ألمانيا وأمريكا ضدّ قادة سياسيين نتيجة التواطؤ بالإبادة الجماعية، لافتاً إلى أن هذا أثر للتقاضي العالمي لأن دول العالم تعلم أن إسرائيل متهمة بالإبادة الجماعية والتواطؤ على ذلك جريمة.
ويرى نسيبة أن كل النشاطات التي تحصل خارج فلسطين وتحدث في محاكم أجنبية تعتبر ذات أهمية كبيرة لفلسطين، مطالباً بمعاقبة الاحتلال "وإذا لم يأتِ هذا العقاب من الأمم المتحدة سيأتي من دول منفردة، وإذا لم يأتِ بإرادة حكومات هذه الدول سيأتي من محاكمها".
بدوره توقع خبير القانون الدولي فيكتور قطان أن صدور قرار من الجلسات قد يستغرق حتى يونيو/حزيران القادم، لافتاً إلى أن رأي المحكمة سيسمح لبعض الدول بتنفيذ القانون الدولي، وسيعطيها سبباً لقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.
يذكر أن العدل الدولية قضت عام 2004 في رأي استشاري مماثل بعدم قانونية بناء الجدار الفاصل في الضفة الغربية المحتلة، وطالبت إسرائيل بإزالته، مع تعويض المتضررين، لكن الأخيرة لم تنفذ طلب المحكمة.