تابعنا
لم يمر التقرير الفرنسي حول مشروع مصالحة الذاكرة بين فرنسا والجزائر، الذي سلّمه المؤرخ بنجامين ستورا الشهر الماضي لرئيس فرنسا إيمانويل ماكرون، مرور الكرام، بل أشعل فتيل حرب جديدة على محور الجزائر-باريس

بلغت ارتدادات ذلك هذه المرة الأوساط الشعبية بعد أن رمى نواب البرلمان الجزائري قانون تجريم الاستعمار بين أحضان الشعب الجزائري.

التقرير الموجود حاليّاً على طاولة حاكم قصر الإليزيه، يحتوي على 22 مقترحاً، تعتبره فرنسا الورقة التي ستخرج العلاقات الجزائرية-الفرنسية من النفق المظلم إلى النور، غير أن قراءات أساتذة في التاريخ ومتتبعين للمشهد السياسي في البلاد تقِرّ عكس هذا، بسبب سطحية وهشاشة المقترحات، حتى إن بعضها يعَدّ "استفزازيّاً" ومتناقضاً في الصميم والعمق، ووفقاً لمحللين فإن الضباب بين فرنسا والجزائر لن ينقشع وسيبقى الاستعمار الفرنسي جرحاً لا يندمل في ذاكرة الجزائريين.

مقترحات استفزازية

ومن المقترحات "الاستفزازية" التي تضمنها تقرير ستورا المولود في الجزائر لأسرة يهودية عام 1950 والمتخصص في التاريخ الكولونيالي في الجزائر وحروب الاستعمار، إيجاد أرضية للتفاوض مع السلطات الجزائرية حول تنقل "الحركى" وعائلاتهم بين البلدين، إضافة إلى تنصيب لجنة من المؤرخين للتحقيق حول عمليات اغتيال لفرنسيين بعد الاستقلال، إضافة إلى ذلك سيكون مطلوباً من الجزائر وفقاً لما ورد في تقرير بنجامين ستورا القيام بعمليات ترميم على مقابر الأوروبيين واليهود بالجزائر.

ويبدو أن فرنسا قد ضربت على وتر حساس للغاية، لأن الجزائر سبق واستثنت ملف "خونة ثورة تحرير الجزائر" من المناقشات مع الطرف الفرنسي، وهو ما أكده مستشار الرئيس الجزائري المكلَّف الذاكرة الجزائرية عبد المجيد شيخي، في حوار أجراه في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي مع مجلة الجيش (لسان حال المؤسسة العسكرية الجزائرية)، بحيث قال إن بعض الملفات غير قابل للنقاش، كموضوع الحركى، لأن ذهابهم إلى فرنسا كان بمحض إراداتهم.

والحركيون هم المقاتلون الذين جُنّدوا للقتال إلى جانب الجيش الفرنسي في أثناء حرب الاستقلال الجزائرية (1954-1963) بين جبهة التحرير الوطني وفرنسا، ويقدر عددهم بنحو 200 ألف رجل.

ومن الملفات الأخرى التي قفزت عليها فرنسا وغضت عنها بصيرتها، ملف التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية التي حدثت في أثناء الاحتلال الفرنسي للبلاد في 13 فبراير/شباط 1960، والتي تمت أيضاً في عهد الحكومة المؤقتة في 18 مارس/آذار 1962، ثم تجددت في حكم الرئيس الراحل العقيد الهواري بومدين بتاريخ 16 شباط/فبراير 1966، ويُعتبر هذا الملف من أبرز الملفات التاريخية العالقة التي تظهر بين حين وآخَر.

وفي أول ردّ رسمي من السلطات الجزائرية على إسقاط ملف التجارب النووية من التقرير، قال رئيس قسم هندسة القتال بقيادة القوات البرية العميد بوفريوة، إن فرنسا مطالَبة بتحمل مسؤوليتها التاريخية تجاه التجارب النووية التي أجرتها في الصحراء الجزائرية ومعالجة أخطاء الماضي وبدء تأمين وحماية هذه المناطق.

وكشف المسؤول العسكري، في حوار أجراه مع مجلة "الجيش" (لسان حالة المؤسسة العسكرية) أن فرنسا نفذت 17 تفجيراً، منها 4 تفجيرات سطحية بمنطقة رڨان و13 تفجيراً باطنياً بمنطقة إن إيكر، مردفاً بأن "كل العمليات تمت تحت ذريعة البحث العلمي، ناهيك بتجارب تكميلية أخرى، وتسببت التجارب السطحية بمنطقة رڨان، في تلويث أجزاء كبيرة من الجنوب الجزائري، ووصل إلى دول إفريقية أخرى، أما التجارب الباطنية في إن إيكر فقد "خرج عديد منها عن السيطرة، مما أدى إلى انتشار النواتج الانشطارية للانفجار ملوثة مناطق واسعة".

كما أبرز المسؤول في السياق ذاته، أن من مخلفات هذه التجارب "نفايات ضخمة غزيرة الإشعاع طويلة العمر، منها ما دُفن تحت الأرض ومنها ما بقي في العراء".

وما زاد حالة التوتر، إعلان الرئاسة الفرنسية عدم نية الرئيس ماكرون تقديم اعتذار رسمي للجزائر عن جرائم احتلالها طوال 132 سنة، في وقت هددت فيه الجزائر باللجوء إلى التحكيم الدولي لاسترجاع أرشيفها المنهوب بسبب ما وصفته بـ"التباطؤ الفرنسي في تلبية مطالبها"، ولوّح مستشار الرئيس الجزائري عبد المجيد شيخي، في تصريح للإذاعة الجزائرية الحكومية، باللجوء إلى التحكيم الدولي للمرة الأولى، وقال إنه "لا يوجد ما يمنع من اللجوء إلى التحكيم الدولي أو عرض القضية على الهيئات القضائية في حال لم تلتزم حكومة فرنسا وعودها".

وكان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون،أكّد عقب استعادة بلاده في يوليو/تموز الماضي، رفات 24 من قادة المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، إنه يريد اعتذاراً من فرنسا عن ماضيها الاستعماري، وقال في حوار تليفزيوني إن "باريس قدّمت نصف اعتذار"، وعبّر عن أمل بأن "تواصل على المنهج نفسه وتقدّم كامل اعتذارها".

فرنسا تناور

وبرأي مراقبين فإن الذاكرة التاريخية ستستمر في الإلقاء بظلالها على محور الجزائر-باريس، ويعلق الباحث في الشؤون السياسية والأمنية مبروك كاهي، على هذه التطورات في تصريح خاص لـTRT عربي بقوله: "علينا أن نكون واقعيين لا حالمين، التقرير لن يكون في صالح الجزائر، والأكيد أنه سيكون لصالح الجانب الفرنسي".

وفي تعليقه على ما تضمنه تقرير المؤرخ بنجامين ستورا، يقول مبروك كاهي إنه يجب النظر إلى الجانب الإيجابي والعمل على توظيفه لصالح الجزائر، فالطرف الجزائري اليوم مُطالَب بإعداد تقريره، لا توجيه نقد إلى تقرير ستورا، ومن ثم لا بد من جلوس ممثل فرنسا وممثل الجزائر إلى طاولة واحدة لدراسة التقريرين وتبادل وجهات النظر.

أما البرلماني السابق عن حركة النهضة الجزائرية وأحد المبادرين بمشروع قانون تجريم الاستعمار الفرنسي محمد حديبي، فيقول في تصريح خاص لـTRT عربي، إن تقرير المؤرخ بنجامين ستورا لم يرتقِ إلى الحد الأدنى لفتح نقاش رسمي، حتى إنه أبرز أن الخطابات الرئاسية الدبلوماسية بين البلدين في هذا الموضوع كانت للاستهلاك الإعلامي، وأثبتت أن الطرف الفرنسي كان ينتهج أسلوب المناورة، ولن تكون له الشجاعة السياسية للاعتراف بأخطائه وجرائمه وما فعله بالدولة الجزائرية وشعبها.

ويرى حديبي أن كل ما جاء في التقرير هو بمثابة دعوة إلى تجاوز أحداث مرحلة الاستعمار الفرنسي وفتح صفحة جديدة عبر عدة آليات للتطبيع الاستعماري ونسيان الماضي من خلال خلق فضاءات الاحتكاك بين النخب الجزائرية والفرنسية ومحاولة بناء تاريخ مشترك بين الجزائر وفرنسا من خلال ذكر المناقب الإيجابية للبلدين وتقديم فرنسا حسن نية للطرف الجزائري كإنجاز تمثال للأمير عبد القادر بفرنسا وتقديم بعض الآثار للتراث الوطني المسروق من طرفها، مقابل أن يخفّف الطرف الجزائري السفر والتنقل للحركى وأبنائهم إلى الجزائر.

واعتبر البرلماني السابق عن حركة النهضة الجزائرية التقرير استهزاءً واستخفافاً بالمطلب الجزائري، وتجاوزاً عن الحقائق التاريخية ومحاولة إعادة التطبيع الثقافي واللغوي الفرنسي بالجزائري من أجل إنتاج جيل جزائري هجين الهُوية الوطنية لا يعترف بتضحيات شعبه.

ارتدادات

أحدث تقرير المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا الخاص بالذاكرة بين الجزائر وفرنسا ارتدادات في الساحة الجزائرية، في وقت لا تزال فيه السلطات العليا في البلاد تلتزم الصمت، ربما بسبب غياب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون.

وأطلق نواب جزائريون حملة شعبية لسنّ قانون تجريم الاستعمار الفرنسي للجزائر خلال الفترة الممتدة بين عامي 1830 و1962، إذ أطلقوا استمارة إلكترونية بهدف جمع توقيعات المواطنين تتضمن مطالب البرلمان بغرفتيه (المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة) بسَنّ القانون الذي لا يزال حبيس الأدراج منذ سنوات طويلة، وتنصّ المادة الرابعة من القانون على أن مطالبة باريس بالاعتراف بجرائمها حق مشروع للجزائريين غير قابل للتنازل، أما المادة الخامسة فتنصّ على أن الجرائم المذكورة في المادة 3 لا تسقط بالتقادم.

وتعليقاً على هذه الخطوة، يقول الخبير في الشؤون السياسية مبروك كاهي، في تصريح خاص لـTRT عربي، إن "الحملة الشعبية هي انحراف، وستكون في صالح فرنسا، فملفّ الذاكرة يحتاج إلى فريق علمي وقانوني، لأن الجزائر بصدد المطالبة بحق، لا إلقاء شعارات، فالأمر يحتاج إلى إدارة ذكية حتى نضع فرنسا أمام جرائمها".

نفس الموقف أيضاً تبناه البرلماني الجزائري عن حركة النهضة محمد حديبي، إذ يقول في تصريح لـTRT عربي إن السلطة السياسية في الجزائر مُجبَرة على تحريك أوراق تؤلم الطرف الفرنسي وتجبره على الاعتراف بجرائمه.

ويرى المتحدث أن فرنسا اليوم بين خيارين أحلاهما مر، يتعلق الأول بإعادة ترتيب علاقاتها مع الجزائر بما يخدم مصلحة البلدين، والثاني هو الدخول في نفق مظلم، وهذا الخيار لا يخدم باريس بحكم حاجتها الماسَّة إلى الجزائر اقتصاديّاً وتجاريّاً وماليّاً وسياسيّاً، ففرنسا تضمّ جالية تُقدَّر بـ5 ملايين مهاجر على أراضيها، كما أنها تُصنَّف ثانيَ شريك اقتصادي وتجاري.

TRT عربي