الجزائر - قطف الحراك الجزائري أولى ثماره عندما أعلن عبد العزيز بوتفليقة استقالته عن منصب الرئاسة الذي تشبث به عشرين عاماً كاملة، مستعيناً بالعسكر. لكنّه لم يكتفِ بذلك، ومضى يطالب برحيل جميع رموز النظام فاصطدم بقائد أركان الجيش، هذا الأخير تراجع خطوةً إلى الوراء بدعوى تجنّب الفراغ الدستوري.
بين حراكٍ شعبي جارفٍ يتطلّع لتغييرٍ جذري لنظام الحكم، ويطالب برحيل جميع رموز النظام السابق، وسلطةٍ على رأسها مؤسّسة الجيش، تتلكّأ في الاستجابة، وتسعى للاكتفاء بإصلاحاتٍ لا تمسّ جوهره وأقطابه، يبدو المشهد السّياسي في الجزائر كأنّه يسير نحو مزيدٍ من التعقيد.
فقد جدّد رئيس الأركان أحمد قايد صالح أمسٍ في خطابه تمسّكَه بإجراء انتخاباتٍ رئاسية، باعتبار أنّها تقطع الطريق أمام من يريد إطالة أمد الأزمة، على حدّ زعمه.
كما رفض قايد صالح رحيل جميع رموز النظام، معتبراً ذلك أمراً غير عقلاني، وضارباً بذلك مطالب الحراك عُرضَ الحائط.
في هذا السياق، أوضح نور الدين بكيس، متخصّص في علم الاجتماع السياسي، في تصريحه لـTRT عربي، أنّ "الحراك وصل إلى مفترق الطرق لأنّه يرفض خارطة الطريق التي يقترحها الجيش، باعتبار أنّها تفتقر للضمانات الكافية"، مشيراً إلى أنّ "الحراك غير قادرٍ على التطور وخلق أشكالٍ جديدة من الاحتجاج في الوقت الراهن وعاجز أيضاً عن إنتاج قياداتٍ تمثله".
تأجيل الانتخابات؟
ترددت أنباءٌ بدايةَ هذا الأسبوع عن احتمال تأجيل الانتخابات المقرّرة في الرّابع من يوليو/تموز حتى نهاية السّنة، بسبب صعوبة تنظيم الأمور اللوجيستية في الوقت المناسب.
وانتهت ليلة أمسٍ الاثنين الآجالُ القانونية لإيداع ملفّات الترشّح للانتخابات الرئاسية لدى المجلس الدستوري.
وتقول وزارة الداخلية إنّ عدد إعلانات الترشّح تجاوز الثمانين، غير أنّ غالبيتهم شخصياتٌ غير معروفة.
واعتبر سليمان بوصوفة، محلّل سياسي جزائري، في تصريحه لـTRT عربي أنّ "إجراء الانتخابات في الرابع من يوليو مستحيل، لأنّه غير ممكن تقنياً ولوجيستيا، والأهمّ شعبيا".
في خطابه، اعتبر القايد صالح أنّ الخطوة الأساسية تتمثل في الإسراع في تشكيل هيئةٍ مستقلّة للإشراف على الانتخابات دون الاشارة إلى موعد تنظيمها.
وتساءل بوصوفة قائلاً "أيّ انتخاباتٍ في ظلّ القوانين والمؤسّسات، بينما الأنظمةُ الحالية معروفةٌ نتائجُها سلفاً، حتى لو نُظّمت تحت إشراف ألف لجنةٍ مستقلّة".
وبدوره استبعد بكيس تنظيمَ انتخاباتٍ في الرّابع من يوليو/تموز، لأنّها ستكون بمثابة "فرصةٍ ضائعة"، لافتاً النّظر، في نفس الوقت، إلى أنّ المؤسسة العسكرية لن تستمر في تجاهل مطالب الحراك، وستقدّم بعضاً من التنازلات للتخفيف من احتقان الشارع.
في المقابل، يرى ناصر باكرية، إعلامي وناشط في الحراك، في تصريحه لـTRT عربي، أنّ "الخطاب بدا متحفظاً عن ذكر تاريخ الانتخابات، وهو ما يقرأ فيه بعض المرونة في امكانية البحث عن آلية دستورية لتمديد فترة الرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح وتأجيل الانتخابات".
ولفت المتحدّث ذاته إلى أنّ الخطاب ربطها بتنصيب لجنة إشراف وتنظيم للانتخابات، وهو مطلبٌ، وإن بدا متقاطعاً مع مطالب الشارع الجزائري الذي يدعو من البداية الى إبعاد العملية الانتخابية عن الإدارة.
واعتبر باكرية أنّ هذا "مطلبٌ مفخّخ، لأنّ هذه الهيئة يصعب تشكيلها، بعد رفض القضاة المستقلين الإشراف على العملية الانتخابية، كما يصعب التكهّن بآليات ومعايير الانتساب إليها، فضلاً عن التوافق على أعضائها من قبل الفاعلين في السّاحة الآن".
دعوةٌ للحوار
يخشى الجزائريون من تغوّل المؤسّسة العسكرية، وهم يعلمون جيداً أنّ الدولة الجزائرية هي دولة عسكر منذ عام 1962،وفترةُ بوتفليقة لم تكن إلاّ عبارةً عن طرف مدني استعان بقوة العسكر، وعسكرٍ وَجد في طرفٍ مدني ضالّتَه التي تحمي مصالحه.
السّؤال المطروح هنا هو: هل السّلطة العسكرية اليوم مستعدّةٌ لتسليم مقاليد الحكم للهيئات المدنية المنتخبة أم لا؟ حتى الآن لا توجد إجابات حقيقية لأسئلةٍ من هذا النّوع.
في هذا السّياق، يقول باكرية إنّ "اختيار ممثلين عن الحراك الذي دعا اليه بيان المؤسّسة العسكرية نقطةٌ مريبة، لأنّها تكاد تكون قد وضعت شروطاً ومعايير لمن يمثل الحراك، وكأنّها تتحدث عمّن يتمثل المؤسّسة العسكرية وليس الحراك الشعبي".
وكانت ثلاثُ شخصياتٍ سياسية وعسكرية بارزة دعت القيادة العسكرية للحوار مع ممثلي الحركة الاحتجاجية، وحذّرت من حالة الانسداد بسبب التمسّك بإجراء الانتخابات في موعدها.
واقترح كلّ من وزير الخارجية الأسبق أحمد طالب الإبراهيمي والمحامي علي يحي عبد النور والجنرال المتقاعد رشيد بن يلس، دخولَ مرحلةٍ انتقالية قصيرة الأمد تقودها شخصياتٌ لم تكن لها علاقةٌ بالنظام السابق.
في هذا الإطار، قلّل بكيسمن أهمية هذا الاقتراح. يوضّح، في تصريحه لـTRT عربي،أنّها "مجرّد جسّ نبض لموقف للمؤسّسة العسكرية" معتبراً إياها "مبادرةً ضعيفة لأنّها لا تحمل أي نقاط قوة أو ضغط على السلطة".
وأشار بكيس إلى أنّ "كلّ المبادرات تشكّل نوعاً من الغطاء أو الشرعية الإضافية لقرارات الجيش".
سيناريوهات محتملة
يحمل الجيش الجزائري رمزيةً كبيرة لدى الشّعب الجزائري، خاصّة وأنه ينظر إليه على أنه سليل المقاومة ضد الاستعمار، لكنّ هذه الرمزية لم تمنع الجزائريين من التخوّف من سيناريو جديد يُجهض الثورة.
فعلى مواقع التواصل الاجتماعي، انتشرت فكرةٌ مفادُها أنّ الجيش الجزائري، ونظرا لقيادته للبلاد على مدى عقود متصلة، سيكون من الصّعب عليه أن يتخلّى عن مقاليد الحكم بهذه البساطة.
وفي هذا الصّدد، يرى بكيس أنّ الشارع "لا يملك أدوات السلطة حتى يستطيع تفعيل التغيير في وقتٍ ترى فيه المؤسّسة العسكرية أنّ الوضع غير مناسب لتسليم السلطة على أساس أن الشارع يعيش حالة تصحر، وغياب تأثير".
ولا يستبعد البعض أن تكون استقالة بوتفليقة لصالح شخصيةٍ أخرى من داخل النظام لتستمر الأوضاع السياسية والاقتصادية كما كانت عليه من قبل، وإن بوجوه مختلفة.
ويرى سليمان بوصوفة أنّ "الثورة السّلمية ستطول في ظل تعنّت قيادة الأركان وعدم الاستجابة لمطالب الشعب".
وبعيدا عن دوره وراء الستار، يحظى الجيش الجزائري باحترامٍ كبير لدى الشعب، فهو مكوّنٌ من أبناء الشعب.
ومثلُ هذا السّند الشعبي الذي يؤكده أكثر من مراقب لما يجري في البلاد، يجعل الآمال معقودةً على مساهمةٍ أكثر فعالية من قادة الجيش في تدبير الأزمة الحالية.
بيد أنّ مثل هذه الدعوات قد تُثير مخاوفَ من استغلال الجيش للموقف، بهدف العودة إلى الواجهة السّياسية، خاصةً مع استحضار السّيناريو المصري الذي بدأ أولاً بالانقلاب على محمد مرسي، وانتهى بانتخاب وزير الدفاع السّابق، عبد الفتاح السيسي، رئيساً للبلاد.