الجزائر ـــ مع استمرار الحراك ظهرت علامات تدل على انتكاسته مرة أخرى. فهل تحول الإعلام من بوق للنظام إلى ناطق باسم الحراك فعلاً؟ وهل أفلتت المؤسسات الصحفية من قبضة السلطة؟ أم أن الأمر مجرد فسحة ظرفية ليس إلا؟
في بداية الغضب الجماهيري الرافض لترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة، وتحديداً خلال مظاهرات 22 فبراير/شباط الماضي، وقع الإعلام الجزائري بشقّيه الحكومي والخاص تحت الصدمة وفشل في التماهي مع الحدث.
وأظهرت الفضائيات الخاصة، وقطاع واسع من الإعلام فتوراً في نقل الحراك بسبب الخوف من التعاطي مع مطلب رحيل بوتفليقة عن الحكم، والحديث عن صحته المتدهورة.
ففي ليلة 22 فبراير تحاشى التلفزيون الحكومي الجزائري نقل المسيرات التي عمّت مدن البلاد في نشرته الرئيسة وكذلك الشأن بالنسبة للإذاعة الحكومية ووكالة الأنباء الرسمية.
كما تعرضت وسائل إعلام خاصة لضغوطات من طرف السلطة خلال المسيرات وتلقت أوامر بتجاهل تغطية الحراك.
وبدلاً من تغطية الأحداث راحت سياسة التضليل وتصوير المحتجين على أساس أنهم خرجوا للمطالبة بإصلاحات لا غير.
هذا الخطاب الذي أرادت السلطة تسويقه، أساء إلى صورة العديد من الإعلاميين الجزائريين ووصفهم الشارع بأنهم خصوم مباشرون، وجزء من الأزمة.
وكان الإعلام يهاجَم، خلال المظاهرات، بشعارات قاسية، كدلالة على القطيعة بين الطرفين.
بالنسبة لوسائل الإعلام المرئية سواء الحكومية أو الخاصة لم تتحرر بل زاد استخدامها لتثبيت السلطة بحسب أستاذ علم الاجتماع السياسي نوري دريس في تصريح لـTRT عربي مشيراً إلى أن الإذاعة، في المقابل، كانت أكثر جرأة في تناول قضايا الحراك والشأن السياسي خصوصاً تلك الناطقة بالفرنسية".
انتفاضة الصحفيين
أمام اتساع الضغط وتصاعد وتيرة الحراك فضل الإعلام الرضوخ للواقع في محاولة لاستدراك ما حصل له من فقدانه المصداقية والموضوعية، خصوصاً مع وجود الإعلام البديل الذي تمكّن من تعبئة الشارع بطريقة عجزت عن كسرها كل أدوات السلطة.
ونظم صحفيون جزائريون من القطاعين الحكومي والخاص عدة وقفات احتجاجية وسط العاصمة، تنديداً بما وصفوه التعتيم الإعلامي والضغوط التي يتعرضون لها من طرف السلطة.
وفي عز المسيرات الشعبية المطالبة بتغيير النظام، شهد التلفزيون والإذاعة الحكوميان ووكالة الأنباء الجزائرية الرسمية حركات احتجاجية ووقفات واعتصامات للمنتسبين إليها، بسبب التعتيم الممارَس في نقل ما يجري عبر أرجاء البلاد.
وبعد تخبط في المعالجة ومحاولة لتزييف حقيقة ما يريده الجزائريون في الوهلة الأولى، حدثت الاستفاقة التي أدت إلى ظهور حراك موازٍ لذلك الذي يغزو الشارع.
وتحررت الصحف في عناوينها وباتت تنشر تقارير جريئة ضد الرئيس بوتفليقة والمجموعة المحيطة به.
وباتت فضائيات مثل "الشروق" و"البلاد"، وصحف مثل "الخبر"، ناطقين باسم الحراك ومدافعين عنه بشدة.
وفي قاعات التحرير انتفض الصحافيون وتمردوا لأول مرة على واقعهم، مطالبين بتمكينهم من نقل الصورة على حقيقتها.
واستطاعوا انتزاع هامش أكبر من الحرية؛ فأصبح التلفزيون العمومي ينقل صور المحتجين، وكذلك أصبحت الإذاعة الوطنية تستقبل معارضين للنظام.
عقاب السلطة
واجه الإعلام الخاص في الجزائر ضغوطاً كبيرة، خلال فترة الحراك الشعبي الثائر ضد النظام، أخذت أشكالاً متعددة منها قطع البث المباشر عن القنوات ووقف ضخ الإشهار العمومي عنها بهدف خنقها، وهو سلاح كانت توظفه السلطة لتأديب الصحف المصنفة معارضة.
"استغلال السلطة للإشهار كان عامل ضغط استخدمته السلطة ضد وسائل الإعلام لتكميم أفواهها وتحويلها إلى بوق للنظام ليس إلا"، يوضح الكاتب والإعلامي عثمان لحياني في تصريح لـTRT عربي.
وأضاف أن ذلك أثّر على القنوات التلفزيونية في تناول القضايا والشعارات التي ينادي بها الحراك بالكيفية المطلوبة".
انتكاسة
بعد إلغاء العهدة الخامسة واستقالة بوتفليقة رفع الحراك سقف مطالبه بتغيير النظام ورحيل جميع رموزه، وهنا بدا أن الإعلام لم يعد يساير مطالبه بالشكل المطلوب؛ حيث كان تركيزه تقريباً على الحملة التي باشرتها الدولة ضد الفساد في محاولة، على ما يبدو، لصرف أنظار الحراك عن مطلبه الأساسي.
عثمان لحياني استبعد أن يكون الحراك الشعبي نجح في تحرير الإعلام.
وقال إنه في البداية وبعد استقالة بوتفليقة بدا وكأن الإعلام تحرر وأن سقف الحرية ارتفع، ثم اتضح لاحقاً أن ذلك لم يكن سوىفتحةحيث انتقل الإعلام من التمحور حول ذات بوتفليقة إلى التمحور حول المؤسسة العسكرية وقائدها".
وأضاف " بعد تنحي الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة من الحكم، حدث انفتاح تدريجي، لكن الضغوط ظلت قائمة بشأن الخيارات والخطوط الحمراء".
بعد تخبط في المعالجة ومحاولة لتزييف حقيقة ما يريده الجزائريون في الوهلة الأولى، حدثت الاستفاقة التي أدت إلى ظهور حراك مواز لذلك الذي يغزو الشارع، لكنه سرعان ما أخذ يتحاشى الخوض في المطالب الحقيقية للحراك.
في هذا الصدد يعتبر إدريس أن طريقة التناول "خاضعة للظرفية وللأحداث نفسها وليست حرية حقيقية".
بدوره لفت الكاتب والإعلامي عادل صياد في تصريح لـTRT عربي إلى أن كل المؤشرات كانت تدل على أن الحراك قد أتاح هوامش حرية كبيرة وغير مسبوقة في التعبير عن رغبة الجزائريين تغيير نظام الحكم والتأسيس لجزائر جديدة.
وأضاف أنه مع الوقت وهَن مطلب تغيير نظام الحكم، ولم يعد الإعلام المحلي مهتماً بهذا الموضوع.
وأوضح صياد أن التركيز صار أكثر على ملفات الفساد في تناغم واضح مع الحملة التي باشرتها السلطة القائمة ضد رموز الفساد.
منذ إقرار التعددية الإعلامية في 1989 عرفت حرية الصحافة اتساعاً حيناً وتراجعاً أحايين أخرى، منذ مجيء بوتفليقة في 1999 الذي طوعها لصالحه.
واحتلت الجزائر المرتبة 141 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة الأخير لعام 2019 الذي أصدرته منظمة مراسلون بلا حدود، متراجعة خمس نقاط عن العام الماضي.