اتساع رقعة الاحتجاجات وتواليها وتصاعدها لتشمل قطاعات عديدة، وضع السلطة والطبقة السياسية في موقف صعب وفتح الباب أمام سيناريوهات مثيرة للقلق، فمخاوف المُقاطعة والعُزوف الشعبي عن الانتخابات المقررة في 12 يُونيو/حزيران تلقي بظلالها على المشهد الانتخابي في الجزائر.
رواتب هزيلة وغلاء لا يتوقف
منذ مطلع رمضان، شهدت الجزائر العديد من الإضرابات العمالية المطالبة بتصحيح الرواتب الضعيفة التي يتقاضاها العمال كل شهر إضافة إلى مراجعة المنح والتعويضات، وانطلقت شرارة الاحتجاجات في الجزائر من قطاع البريد نتيجة ما وصفوه بـ"تأخر الحكومة في الوفاء بوعودها بشأن صرف منح وعلاوات تحفيزية للعمال والموظفين ما تسبب في شل كل الخدمات المقدمة على مستوى تلك المرافق العمومية، ثم انتقلت الشرارة إلى قطاع التعليم الذي يعيش على صفيح ساخن، بحيث يشهدُ أعنف إضراب منذ بداية الموسم الدراسي الحالي والذي بات يهددُ الامتحانات الرسمية.
فالمُعلمون اليوم في الجزائر يُطالبون بتحسين القدرة الشرائية واسترجاع الحق في التقاعد النسبي من دون شرط السن وإصلاح المنظومة التربوية من خلال القيام بمراجعة شاملة للبرامج والمناهج إضافة إلى إنهاء أزمة الأساتذة المتخرجين من المدارس العليا لتقليص رقعة البطالة.
وامتدت الإضرابات العمالية المُطالبة بتصحيح الأوضاع الاجتماعية للعمال الجزائريين إلى قطاع الحماية المدنية (الدفاع المدني)، الذين قاموا بإضراب وطني "تاريخي" بعد أن خرجوا في مسيرات إلى الساحات والشوارع، وانتهى الإضراب بتوقيف 23 موظفاً بتهمة التحريض على التجمع غير المسلح ومُخالفة قواعد النظام العام.
وأثبتت الشعارات التي رفعها المحتجون طيلة الأيام الماضية، أن العامل الجزائري يغرق في دوامة الفقر بسبب نسب التضخم العالية والعجز في الميزانية التي تُسجلها البلاد سنوياً.
فوارق في الأجور
ويشتكي العمال الجزائريون من اللاعدالة واللامساواة في الأجور أو بتعبير آخر حجم التفاوت بين ما يتقاضاه مُواطن بسيط ومسؤول نافذ في الدولة الجزائرية، ووفقاً للديوان الجزائري للإحصائيات (مُؤسسة جزائرية مُكلفة بجمع ونشر الإحصائيات المُتعلقة بالاقتصاد)، فإن الفوارق في الأجور تبرز بصورة واضحة سواء تعلق الأمر بالقطاعات أو بالنسبة للمسؤوليات التي تخضعُ بعضها لنظام خاص بالأجور مع حساب عدد مرات الأجر الأدنى المضمون، كما هو الوضع بالنسبة للموظفين في المجالس الإدارية.
وأرجع الديوان الفوارق في الأجور بين القطاعين العام والخاص في الجزائر إلى وجود بعض المُؤسسات العمومية المهمة (التابعة للدولة الجزائرية) من ناحية القوى العاملة التي تعملُ بنظام أجور مميز وخاص.
وخص الديوان الجزائري للإحصائيات بالذكر المؤسسات الكبرى التابعة لقطاع المحروقات والخدمات البترولية والنشاطات المالية والنقل والاتصالات، وأورد التقرير أن قطاعي المحروقات والمالية يأتيان على رأس القائمة في مجال الأجور، وتُقدر أجور القطاع العام في قطاع المحروقات والخدمات البترولية الأعلى إذ تتجاوزُ عتبة 107.000 دينار جزائري، بينما يبلغ أجر موظفي النقل والاتصالات بحوالي 58,500 دينار جزائري والنشاطات المالية بـ 57,200 دينار جزائري.
ولم يتوقف الجدل في الجزائر طيلة السنوات الماضية حول قيمة تقاعد المسؤولين السامين في الدولة الجزائرية وأجور النواب في البرلمان وغيرهم من الإطارات العُليا في أي قطاع كان، فالنائب الجزائري مثلاً يتقاضى تقريباً أكثر من سبعة أضعاف ما يكسبه الأستاذ أو حتى الجزائري متوسط الدخل، بحيث يُقدرُ راتبه بنحو ثلاثة آلاف دولار شهرياً أي ما يُعادل نحو ثلاثين مليون سنتيم بسعر الصرف الرسمي إضافة إلى بعض الامتيازات المتعلقة بالسكن والنقل والهاتف.
بينما لا يصل الحد الأدنى لراتب العامل في الجزائر إلى أكثر من 164 دولاراً، فهو يتقاضى خلال ساعة العمل الواحدة حوالي دولار أمريكي واحد، ويُعتبر أجر الموظف الجزائري الأضعف عربياً وفقاً لنتائج تحقيق أجراه موقع "العربية نت"، إذ جاءت الجزائر في المركز الثالث عشر بمتوسط راتب شهري يبلغ نحو 293 دولاراً شهرياً بعد ليبيا التي جاءت في المركز السادس بمتوسط دخل شهري للموظف يبلغ نحو 1713 دولاراً شهرياً رغم الصراعات والنزاعات التي تشهدها منذُ سنوات طويلة، حتى العراق جاء في المركز العاشر رغم حالة عدم الاستقرار التي تشهدها منذ سنوات طويلة حيث يبلغ متوسط راتب الموظف نحو 663 دولاراً شهرياً، وجاء الأردن في المركز الحادي عشر بمتوسط راتب شهري للموظف يبلغ نحو 646 دولاراً ثم المغرب بالمركز الثاني عشر بمتوسط راتب شهري يبلغ نحو 403 دولارات.
وظل مستوى الأجور في الجزائر ثابتاً خلال الفترة الممتدة ما بين 2012 و2019 في مستوى 135 دولار أو ما يعادل 18 ألف دينار، إلى غاية 2021 عندما قرر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون رفع الحد الأدنى للأجور إلى 20 ألف دينار أي ما يعادل 120 يورو بسعر الصرف الرسمي وبزيادة طفيفة تقدر بألفي دينار عن الحد الأدنى المضمون سابقاً.
زيادات لا تسمن ولا تغني من جوع
وتبقى هذه الزيادات "ضعيفة لا تسمن ولا تغني من جوع" في نظر نقابيين بالنظر إلى الظروف الصعبة التي يواجهها العمال الجزائريون فجيوبهم منهكة مثقلة بغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار بسبب تهاوي قيمة العملة المحلية إلى مستويات تاريخية أمام العملات الأجنبية، إذ خسرت العملة المحلية أكثر من 10 دنانير أمام الدولار منذ تفشي فيروس كورونا في البلاد في فبراير/شباط 2020، حيث بلغ سعر الصرف 133 ديناراً للدولار نهاية أبريل/ نيسان 2021 بعدما استقر عند حدود 120 ديناراً نهاية مارس/آذار 2020 عندما أغلقت الحدود البرية والبحرية بسبب الجائحة، كذلك حقق اليورو هو الآخر أرباحاً قياسية بعدما قفز سعره من 135 ديناراً إلى 137 ديناراً.
ويُقر النقابي البارز في قطاع التعليم مسعود بوديبة، في تصريح لـTRT عربي بوجود خلل واضح في منظومة الأجور فهناك من يتقاضى أكثر من 20 مرة الحد الأدنى للأجور الذي تم تعديله مؤخراً بإضفاء زيادات جد طفيفة لا تتماشى مع المتغيرات الراهنة.
ووفق بوديبة، فإن بعض الدراسات التي أجريت تشير إلى أن الحد الأدنى للعيش في الجزائر يجب أن لا يقل عن 80 ألف دينار في الشهر أي ما يعادل حوالي 600 دولار، وهي الدراسة التي أنجزتها كونفدرالية النقابات المستقلة (تضم أكثر من 14 نقابة مستقلة)، إذ اقترحت الزيادة في الحد الوطني المضمون للأجر إلى 80 ألف دينار من خلال الاعتماد على ما يُصطلح عليه بنظام "الأوقية" والتي تمثل الحد الأدنى للعيش لضمان الحق في العيش الكريم.
ويقول بوديبة إن العمال الجزائريين خرجوا إلى الشوارع لأنهم لم يعودوا قادرين على سد حاجياتهم الأساسية بسبب الرواتب الهزيلة والضعيفة التي يتقاضونها كل شهر وعادة ما تتأخر إلى ما بعد انقضاء الشهر.
ويُوافقه في الرأي الباحث في الشؤون الاقتصادية والمالية سليمان ناصر، إذ يقول لـTRT عربي: "إن وزيراً جزائرياً يتقاضى قرابة 20 ضعفاً بالنسبة للحد الأدنى للأجور وهو أدنى مبلغ يتقاضاه العامل في الساعة، فما يأخذه العامل الجزائري كأجر في الشهر لا يتناسب إطلاقاً مع ما يقدمه للوطن."
وفي خضم الاحتجاجات التي تشهدها الجزائر اليوم بسبب التدهور الفظيع في القدرة الشرائية، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل تملك الجزائر الموارد المالية الكافية لرفع الأجور وتحسين القدرة الشرائية؟
يؤكد الخبير الاقتصادي سليمان ناصر استحالة تحقيق العيش الكريم للعامل الجزائري لعدة أسباب أبرزها عجز ميزانية الدولة والذي يقدر بـ3310 مليار دينار أي ما يعادل 25 مليار دولار حسب التقديرات الحكومية المدرجة في قانون الموازنة التكميلي الذي أقرته الحكومة لإتمام الموازنة المالية الحالية فرضته تداعيات الأزمة الصحية والتقلبات الخاصة بأسعار الذهب الأسود.
ويعتقد المتحدث أن هذا العجز المسجل سيضع الحكومة أمام خيارين أحلاهما مر يتمثل الأول في إمكانية اللجوء إلى التمويل غير التقليدي وهو الخيار المتاح بنص قانوني على خلفية تعديل قانون القرض والنقد من إدراج المادة 45 مكرر والتي تنص على أنه "بغض النظر عن كل حكم مخالف، يقوم بنك الجزائر ابتداء من دخول هذا الحكم حيز التنفيذي بشكل استثنائي، ولمدة خمس سنوات، بشراء مباشر عن الخزينة، للسندات المالية التي تصدرها هذه الأخيرة من أجل المساهمة على وجه الخصوص في تغطية احتياجات تمويل الخزينة وتمويل الدين العمومي الداخلي وتمويل الصندوق الوطني للاستثمار"، أما الخيار الثاني فيتثمل في إمكانية اللجوء إلى المديونية الخارجية رغم أن آليات الإقراض غير متوفرة بمستويات كبيرة.
ومن بين الأسباب الأخرى التي تحول دون فتح ملف الأجور حالياً، يذكر سليمان ناصر الضغوطات الخارجية التي تتعرض لها الحكومة لتقليص كتلة الأجور وهو ما وقع مع تونس إذ طالبها صندوق النقد الدولي بخفض فاتورة الأجور والحد من دعم الطاقة لمواجهة العجز المالي بينما تعاني البلاد من أزمة مالية وسياسية حادة.