أوضاع ضبابية.. كيف يعيش الغزيون الأسبوع الأول من وقف إطلاق النار؟ / صورة: AA (AA)
تابعنا

يواجه الغزيون واقعاً صعباً مع انعدام الخدمات الأساسية؛ فلا كهرباء ولا مياه صالحة للشرب، ومئات آلاف المنازل تعرضت للدمار الكلي أو الجزئي، ما أجبر العائلات على استمرار النزوح إلى المدارس ومراكز الإيواء أو حتى إعداد خيام مؤقتة، ما يزيد من الأعباء اليومية على المواطنين حتى خلال هدنتهم من الحرب.

وبينما تحاول بعض الأسر إنقاذ ما تبقى من ممتلكاتها تحت الأنقاض، فإن عملية إعادة الإعمار تبدو بعيدة المنال، خصوصاً في ظل عدم وجود خطة واضحة أو دعم كافٍ، ما يجعل السكان يعتمدون على جهودهم الذاتية لتوفير الحد الأدنى من المأوى في محاولة للتكيف مع الواقع الحالي بأي طريقة ممكنة.

"أبني بيتي للمرة الثالثة"

أحمد طافش عاد، حيث يعيش في البلوك الثاني في مخيم جباليا، مصدوماً من أن بيته قد سُوِّي بالأرض. مفاجأة طافش لم تكن هدم البيت، فالتقارير تشير إلى أن أكثر من 70% من المخيم هُدم بالكامل، لكن صدمته كانت بسبب أن هذه هي المرة الثالثة التي عليه أن يبني فيها بيته.

"اليوم جئت لأعمِّر بيتي للمرة الثالثة على التوالي. لقد أعدت بناءه في اليوم السابع والثلاثين من الحرب، بسبب الدمار الهائل الذي لحق به، وقبلها كلّفني بناؤه لأول مرة الكثير، ولكننا فوجئنا عند عودتنا إلى المعسكر بأن البيت قد هدم بالكامل مرة أخرى في الاجتياح الأخير"، هكذا قال طافش بصوت يملؤه العجز لـTRT عربي.

ويتابع أنه حالياً مضطر لبناء البيت بيده، إذ "لا يوجد أفق واضح للإعمار، وكل ما نسمعه من وعود دولية هو كاذب. نحن مجبرون على إيجاد مأوى بأنفسنا، لن ننتظر أحداً، فالوضع لا يحتمل انتظار إعادة الإعمار".

طافش الذي يبلغ عدد أسرته 5 أشخاص يكمل بأسى يخالطه الصبر: "وإذا لم أجد شيئاً لأعيد به بناء البيت، سأحاول تدبير مكان أصنع فيه خيمة بنفسي، باستخدام خشب وبعض الشوادر، على نفقتي الخاصة التي سأضطر إلى اقتطاعها من القوت الذي أحاول توفيره لأطفالي، لأصنع لهم مأوى بسيطاً نحتمي به بدلاً من البقاء مشتتين في الشوارع أو في المدارس ومراكز الإيواء".

وتشاركه أم محمد، مع مئات آلاف الغزيين، نفس المصير؛ إذ عادت إلى مخيم جباليا لتجمع ما تبقى من أغراضها وأسرتها لكنها لم تجد أي شيء يمكنها إنقاذه من المنزل، كل شيء ذهب، ولم يتبقَّ إلا الركام والغبار.

كل ما تتمناه أم محمد الآن أن تستطيع نصب خيمة على أطلال بيتها تحتمي بها. "أين أنتظر؟ أين سأعيش خلال هذا الوقت؟ كنت نازحة في حي النصر بمدينة غزة، وتلك البيوت الآن يعيش فيها الذين عادوا من الجنوب، ولا يوجد أي مكان أذهب إليه سوى الشارع. لذلك عدت إلى هنا، إلى بيتي، لأحاول نصب خيمة والعيش فيها مؤقتاً".

وبوهنٍ تُكمل أم محمد لـTRT عربي: "لكننا ما زلنا ننتظر من يساعدنا بخيمة، حتى الآن لم نحصل على أي شيء، ولا نعرف أي جهة يمكنها تقديم المساعدة. سأحاول صنع مأوى بسيط بيدي ببعض الشرائط والخشب"، آملةً أن تحصل وأسرتها على خيمة أو كرفان يعيشون به في حالة وصول المساعدات من الخارج.

ويشار إلى أن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار تنص على أن عمليات إعادة تأهيل البنية التحتية ستنطلق في جميع مناطق قطاع غزة، تحت إشراف مجموعة من الدول والمنظمات الدولية، مع إدخال المعدات اللازمة لدعم فرق الدفاع المدني، وإزالة الركام والأنقاض، إضافةً إلى توفير الوسائل اللازمة لإنشاء مراكز لإيواء النازحين الذين فقدوا منازلهم، بما في ذلك بناء ما لا يقل عن 60 ألف وحدة سكنية مؤقتة، و200 ألف خيمة إيواء.

صورة توضح منزل مراسل TRT عربي سامي برهوم في غزة قبل الحرب وبعدها (TRT Arabi)

وأظهرت بيانات صادرة عن الأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أن الحرب في غزة أسفرت عن تدمير أو تسوية ثلثي مباني القطاع بالأرض، حيث تضرر أكثر من 170 ألف مبنى، ما يعادل نحو 69% من إجمالي المباني.

وشملت هذه الأضرار نحو 300 ألف وحدة سكنية، أي ما يعادل 90% من منازل القطاع، وفق تقديرات أممية، فيما يحتاج أكثر من 1.8 مليون شخص حالياً إلى مأوى، حسب مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية.

"من الصعب أن يتعرف أحد على بيته"

وسط مشاهد الدمار الذي يخيّم على مدينة رفح، يروي سامي برهوم، مراسل قناة TRT عربي، رحلته المؤلمة إلى بيته بعد وقف إطلاق النار: "كانت العودة إلى المنازل بمثابة اختبار حقيقي لما تركه الاحتلال الإسرائيلي خلفه من دمار وألم"، يقول سامي.

ويكمل: "ذهبت إلى بيتي في مخيم بدر في تل السلطان، لكنني لم أجده، بيتي والحي السكني بأكمله، وبيوت الجيران، باتت كومة من الركام. حتى العثور على مكان البيت استغرق مني أكثر من ساعة ونصف، فالشوارع تحولت إلى حُفر عميقة، والبيوت تداخلت، وصار من المستحيل تمييز بيتك بين هذا الخراب".

يتابع سامي بصوت مليء بالحسرة: "كان بيتي مكوناً من طابقين، بمساحة 220 متراً، استغرق بناؤه عامين، وإلى جانبه مزرعة صغيرة فيها أشجار زرعتها بيدي. كل ذلك اختفى وتحول إلى كومة من الركام. لم يكن من السهل أن أرى تعب سنوات عمري كله، البيت والسيارة والأرض، قد زال كأنه لم يكن. كنت أشاهد (شقاء العمر) أمامي وقد أصبح رماداً".

لم يقتصر الألم على خسارة البيت، بل تجاوز ذلك إلى خسارة الجيران، الذين لم يعودوا هناك. يقول سامي: "اكتشفت أن سبعة بيوت مجاورة لي، كان يسكنها جيراني، قد دُمِّرت بالكامل. جميع سكانها استُشهدوا... جميعهم رحلوا. كان المشهد قاسياً جداً، لا يمكن لعقل أن يتخيل حجم ما فعلته إسرائيل على مدار أكثر من تسعة أشهر في مدينة رفح".

يستطرد : "رفح كانت مدينة كاملة بحجم 67 كيلومتراً مربعاً. أحياؤها الكبيرة مثل حي السلطان، والحي السعودي، ومخيم يبنا، ومخيم الشابورة، وحي الجنينة، وحي السلام، وحي البرازيل، جميعها دُمرت. نصف الأحياء سُوِّي بالأرض وتحوَّل إلى ركام، والنصف الآخر دُمِّرت أبنيته بالكامل ولم يبقَ إلا أرض قاحلة كأنها صحراء".

سامي برهوم مراسل TRT عربي من أمام منزله المدمر بالكامل في حي تل السلطان بمدينة رفح (TRT Arabi)

في محاولته للبحث عن بصيص أمل، يقول سامي: "بعد أن رأيت بيتي مدمراً، لم يتبقَ لي سوى سيارتي التي كنت أنام فيها خلال أشهر الحرب. أقضي وقتي في التغطية الصحفية على شاشة TRT، وفي البحث تحت أنقاض منزلي عن أي شيء يمكنني استعادته. أبحث عن ذكريات أطفالي، أو ملابسهم، أو أي شيء بسيط. أما الوقت المتبقي فأقضيه مع عائلتي، أحاول التخفيف عنهم وعن نفسي، فهم الآن مثل غيرهم من أهل غزة يعيشون في خيام بعد أن دُمرت بيوتهم بالكامل".

يختتم سامي بقوله: "حالي مثل حال كل فلسطيني في غزة، ننتظر أن تبدأ الآليات في إزالة الركام، وننتظر وعود الإعمار التي تبدو بعيدة جداً. الآن نخطط لبناء خيمة على أنقاض المنزل لنحاول استعادة أبسط مقومات الحياة، كالماء والطعام. الدمار في غزة هائل ويحتاج إلى سنوات حتى تُزال آثاره".

وبعد مماطلة من الجانب الإسرائيلي بدأ الأحد الماضي سريان وقف إطلاق النار، ويستمر في مرحلته الأولى لمدة 42 يوماً، يجرى خلالها التفاوض لبدء مرحلة ثانية ثم ثالثة، بوساطة مصر وقطر والولايات المتحدة، وذلك بعد أن ارتكب الاحتلال الإسرائيلي إبادة في قطاع غزة بين 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 و19 يناير/كانون الثاني 2025، خلَّفت أكثر من 158 ألف شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 14 ألف مفقود، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم.

TRT عربي
الأكثر تداولاً