في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، سمحت السلطات المصرية بخروج 500 من حمَلَة الجنسيات الأجنبيّة من غزة عبر معبر رفح، مقابل السماح بنقل المصابين من القطاع لتلقي العلاج في المستشفيات المصرية.
وكان 7 آلاف شخص يحملون ستين جنسية يزورون القطاع قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، وفق ما أعلنت الخارجية المصرية في جلسة إحاطة عقدتها لإطلاع السفراء الأجانب على الخطوات المصرية لإجلاء الرعايا الأجانب عبر معبر رفح.
عاشت نداء وأسرتها، المكونة من زوجها و3 أطفال، طوال 32 يوماً تحت ويلات القصف قبل الخروج من غزة إلى مصر.
في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وبعد انتشار أنباء عمليّة "طوفان الأقصى"، قرّر الزوج حماية أطفاله وزوجته الحامل قبل بدء قصف الاحتلال، ونقلهم من منزلهم في شرق البريج إلى منزل عائلتها وسط مخيم البريج (جنوب وادي غزة)، على أمل أن يكون الوضع أكثر أماناً.
أوضاع مرعبة
وتصف نداء الوضع في غزة بأنه شديد الصعوبة، ولا يمكن أن يُعبِّر عنه أحد بالكلام، وحتى ما تُظهره الشاشات هو أقلّ مما يشعر به سكان غزة.
تقول نداء لـTRT عربي، إنها عاشت وضعاً مخيفاً ومرعباً ومهولاً لا يتصوّره عقل بشري، رغم قناعتها بأن معاناتها أخف ضرراً من غيرها.
وتضيف أنها حملت حقيبة صغيرة تضم ملابس الأطفال، "غِيَار واحد لكل منهم"، وحاولت العثور على سيارة لتنقلهم إلى المعبر، لكن صعوبة الوضع حالت دون ذلك.
وبعد تواصُل شقيقها، الذي يحمل جنسية دولة أجنبية مع السفارة، أرسلت جوازات سفر شقيقته وأطفالها ووردت أسماؤهم في الكشف الصادر يوم 4 نوفمبر/تشرين الثاني للخروج إلى مصر.
بين الانتقال من منزلها والوصول إلى مصر، شاهدت نداء الموت أكثر من مرة طوال شهر كامل، وتوضح أنّها حين انتقلت إلى منزل عائلتها ودّعت زوجها، معتقدة أنها مسألة أيام، لكن القصف استمر ليصل إلى منطقة مخيم البريج، تحديداً شرق المخيم، حيث يقع منزل الزوجين، ثم اقترب أكثر من منزل عائلتها، وكان القصف دون تحذير وبشكل عشوائي.
وتلفت نداء إلى أن قلبها انقبض في ليلة 11 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فقرّرت تجهيز حقيبتها الصغيرة بما تحويه، وجلست أمام بوابة المنزل، وبعد ساعتين غفت فيها من شدة الإرهاق، ثم استيقظت فزعة تردّد الشهادة وتبحث عن أطفالها.
كانت النيران قد اشتعلت حولهم وارتفع الدخان والغبار، ولم يكن سوى ألسنة اللهب الناتج من قصف قريب جدّاً، اقتربت نيران القصف تلك من بيتها.
نقلت بصرها بين الدمار، بحثاً عن أبنائها وضمتهم واحداً تلو الآخر إلى حضنها وسط الظلام وفقدان القدرة على التنفس، ثم عادت إلى البيت، وفتحت باب الغرفة بصعوبة بالغة، وظلت تصرخ بأسماء زوجها ووالديها حتى اطمأنت إلى وجودهم.
وتتابع نداء أنهم سألوها عن الأطفال فأخبرتهم أنّهم بخير، وتوجّهت الأسرة إلى باب المنزل، حينها كانت النيران قد اشتعلت في البوابة الخلفيّة فأسرعوا نحو الباب الخلفي للمنزل للنجاة بأنفسهم.
استمر القصف في أثناء محاولتهم الفرار، ووصلوا إلى منزل جيرانهم، كان المربع بأكمله قد قُصف بـ15 صاروخاً، وفق نداء التي تصف المشهد قائلةً: "كل مَن حولنا استُشهد في ضربة واحدة، حيث قصفت المنازل المجاورة بأكملها من جميع الاتجاهات".
رحلة الموت
وخرجت نداء مع زوجها وأطفالهما إلى بيت نَسيبتها وسط مخيم النصيرات، فيما انتقل والداها إلى منزل عمّها غرب المخيم.
وبعد أيام من التحذيرات واقتراب خطر القصف، انتقلت مرة أخرى إلى منزل عمها في غرب النصيرات لتبقى مع والديها، وبعد 32 يوماً صدرت القائمة التي حملت أسماء أفراد أسرتها، وعلموا بالخبر في الثالثة فجراً، فبدأت حينها رحلة البحث عن سيارة تقلّهم إلى معبر رفح.
وتؤكد نداء أن الأمر كان في غاية الصعوبة، فالجميع يخاف المخاطرة، فضلاً عن ندرة السولار والبنزين وارتفاع أسعارهما، وهو ما انعكس على تكلفة رحلتهم التي بلغت 300 شيكل (80 دولاراً) بدلاً من 70 شيكلاً (18 دولاراً).
وتصف رحلتها من غزة إلى مصر بـ"رحلة الموت"، فلم يتوقف القصف طوال الطريق، حتى اضطر السائق إلى مضاعفة السرعة، فتضاعَف الخطر، وتتابع: "نسمع أصوات قصف، ولا نعلم في أي اتجاه".
فزع الأطفال مما شاهدوه طوال الرحلة، فكانت مشاهد الدمار ضخمة، مقارنةً بما شاهدوه طوال الأيام الماضية في أوقات خروجهم النادرة للانتقال من منزل إلى آخر.
وترى نداء أنه لا يوجد سؤال أبلغ من السؤال الذي طرحته عليها طفلتها الصغيرة ذات السنوات الخمس: "يا ماما، هل أستطيع أن أحضنك في الجنة؟"، لتعبّر عمّا ترسب في ذهنها من صور بلوغ الشهادة.
حين وصلت الأسرة إلى معبر رفح، فوجئت بأن خروجها رهن بدخول الجرحى إلى مصر، فاضطروا إلى الانتظار ساعات طويلة من 7 صباحاً حتى 4 مساءً.
وتروي نداء أن السلطات المصرية طالبت الصليب الأحمر بحماية قافلة الجرحى لإخراجها من شمال غزة والوصول بها إلى المعبر عبر ممر آمن، لكن الصليب الأحمر لم يتمكن من توفير أي حماية.
وتتابع القول: "حينها كان موعد المرور قد انتهى وقد حدّد سابقاً من الساعة 1 ظهراً إلى 4 مساءً، حينها أبلغتنا السلطات بضرورة العودة والابتعاد عن معبر رفح الفلسطيني المُعرض للقصف"، لافتةً إلى أن "المشهد كان مليئاً بصراخ الناس، فزعوا من العودة تحت القصف، وكيف سيعودون ولا توجد سيارة في ذلك الوقت والمكان".
كان القرآن والتوسل إلى الله وسيلة الأم لتهدئة الأطفال من أجل مساعدتهم على الخلود للنوم طوال الشهر السابق على وصولهم إلى مصر.
لم تتمكن الأسرة من اصطحاب قطّتين صغيرتين، فتركتهما هناك في غزة بصحبة الزوج، الذي أُجبر على فراق أطفاله، وقرّر الاعتناء بقطتيهما، إذ كان يرغب في الحفاظ على ما يذكّره بهم طوال فترة الغياب، بينما بكت طفلته الصغيرة خوفاً من أن يطال القصف قطتَي الأسرة، فيموتان كما مات الجيران.
"كأنه يوم القيامة"
قبل شهرين ونصف الشهر، وصل عبد الرحمن عايش إلى مصر لتلقي العلاج، انتهت رحلته يوم 9 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أي قبل ساعات من منع المرور عبر معبر رفح في الجانب الفلسطيني، بعد تزايد قصف الاحتلال على قطاع غزة.
حينها لم يعُد عقله يرى سوى صورة أمه وزوجته وأطفاله الأربعة الموجودين هناك على الجانب الآخر، بعد أيام تأكّد من صعوبة العودة، ليفكّر في الحل البديل، أي جلب أسرته إلى منطقة آمنة لحين انتهاء العدوان.
يقول عايش لـTRT عربي إن الأصول المصرية لوالدته مهّدت الطريق لتسجيل أسماء أسرته في كشوف مزدوجي الجنسية، موضحاً أنه العائل الوحيد للأسرة، ووجودهم بعيداً عنه وسط القصف المستمر وعدم توفر الطعام والمياه النظيفة أشعره بالعجز تجاه أطفاله الصغار وزوجته ووالدته المريضة، فالأم السبعينية تعاني أمراضاً مزمنة منها "الضغط والسكريّ" وكسر سابق في الحوض، مما يُصعّب تنقلها من مكان إلى آخر.
وتروي "أم أحمد"، زوجة عبد الرحمن، تفاصيل رحلة الخروج من "المنطقة الآمنة"، حسب المزاعم الإسرائيلية، وتقصد بذلك مدينة خان يونس الواقعة في جنوب القطاع، مؤكدةً أن "القصف لا يفرق بين مكان وآخر في غزة، لا يوجد مكان آمن، الجميع مُعرّض للقصف حتى أطفالي الصغار أصبحوا أصدقاء شهداء".
حاولت "أم أحمد" الصمود طوال شهر كامل تحت القصف، تنقلت خلالها بين مكان وآخر، كلَّما استقروا في مكان لأيام يقترب القصف لينتقلوا إلى مكان آخر.
فضلاً عن ذلك، تحمّلت "أم أحمد" مسؤولية حماتها السبعينية وأطفالها الأربعة في التنقل وتوفير الطعام، فاضطرت إلى استخدام الكتب الدراسية وقوداً لخَبْز ما تبقى من الطحين، قبل الانتقال إلى بيت أسرتها، ثم بيت خالتها، ثم إحدى المدارس التي خُصصت للاجئين.
وطوال هذه الأيام، كان التواصل مع الزوج منبعَ الأمل الوحيد، خصوصاً بعد انقطاع الحليب من ثديها وحرمان رضيعها من مصدر طعامه الوحيد.
تقول "أم أحمد" لـTRT عربي، إن نفاد الوقود وندرة الطعام والمياه الصالحة للشرب والخوف تسبّب في جفاف صدرها، فيما حرمهم استمرار القصف ليل نهار من النوم الهادئ، لا سيّما الأطفال.
ولم يكن بوسعها حتى الخروج للبحث عن طعام يبقيهم على قيد الحياة، إذ تبيّن أن عدداً ممن جازفوا من جيرانها وخرجوا للبحث عن طعام، عادوا أشلاء إلى بيوتهم بعد وقت قصير.
ومنع انقطاعُ الكهرباء وشبكة الهواتف التواصل بشكل كاف مع زوجها للاطمئنان عليهم وتحديد مصيرهم، وبعد شهر علموا بإدراج أسماء أفراد أسرتهم في قائمة المسموح لهم بالخروج من غزة.
استأجر إخوتها سيارة، لأن المسافة بين مكان إقامتها والمعبر تقريباً نصف ساعة، وحصل خلالها سائق السيارة على 300 شيكل (80 دولاراً).
وتلفت "أم أحمد" إلى أنهم تمكنوا من الوصول إلى السيارة بصعوبة شديدة، لأن الطريق غير آمن، ولم تشعر أن القيمة المطلوبة كبيرة، فالسائق يخاطر بحياته.
لم ترَ الأم وأطفالها مشهداً بهذه القسوة التي تطبع الطريق المؤدي إلى المعبر، حيث شقّت الصواريخ الطرقات وسيطرت الدماء على المشهد.
لا تجد كلمات تصف ما رأتْه، فتقول: "ما رأيناه أشبهُ بيوم القيامة، لا يوجد منزل أو شارع إلا وقد قُصف، كان الناس ينشرون ملابسهم في كل مكان، ويخبزون في الشوارع، ويبحثون في حاويات القمامة عمّا يأكلونه".
ما زال صوت الصواريخ أكثر ما يلازم ذاكرتها، وتشير إلى أنه في حال "سقط صاروخ في الشرق يشعر به من يقيم في الغرب، فكانت صواريخ شديدة الانفجار، إذا سقط واحد منها على منزل من 10 طوابق أزاله هو وما حوله".
لازمها الخوف طوال شهر، واستمرت في طريقها إلى المعبر حين شعرت بسقوط صاروخ في منطقة محيطة.
وتضيف أن الآثار النفسية للدمار كانت قوية، وأن طفلتها البالغة 5 سنوات سألتها بعد مرورهم من المعبر وركوبهم سيارة تنقلهم إلى العريش، حيث يعيش زوجها: "ماما، هل نحن في أمان؟"، لم تصدِّق بلاغة سؤال الطفلة، وظلت تكرر السّؤال حتى شارك ركاب السيارة جميعاً في طمأنتها وأكدوا لها أنها في أمان الآن.