بمبيعات تجاوزت المليار دولار في شبابيك التذاكر العالمية، يكتسح فيلم "باربي" (Barbie) دور السينما الصيف الحالي مع دخول مخرجة العمل، غريتا غرويغ، التاريخ السينمائي في هوليوود كأول امرأة تتخطّى إيرادات أحد أعمالها عتبة المليار دولار.
الفيلم الذي بدأ عرضه في دور السينما منذ 21 يوليو/تموز الماضي تحوّل إلى ظاهرة اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت والأسواق والمحال التجارية، إذ أصبح اللون الوردي هو الرائج هذا الموسم، بل أصبح هناك "حمى اللون الوردي" و"حمى باربي"، فمشاهدة الفيلم في السينما أصبحت مقترنة بارتداء لباس وردي الذي يُشكل السمة الأساسية فيه.
ورغم شعبية الفيلم الشديدة في العالم كونه مُصنّفاً ضمن فئة الكوميديا والمغامرة والخيال، فإنه لم يمنع الجدل حوله في بعض الدول العربية التي اعتبرته "يحمل أفكاراً دخيلةً على المجتمع والدين وقيم الأسرة".
لبنان: "يروّج للشذوذ"
التحرك في لبنان ضدّ عرض فيلم "باربي" بدأ في 9 من أغسطس/آب الحالي بإرسال وزير الثقافة اللبناني، محمد وسام المرتضى، كتاباً إلى الأمن العام اللبناني ووزير الداخلية والبلديات، وذلك "لاتخاذ الإجراءات اللّازمة لمنع عرض الفيلم في صالات السينما في لبنان"، إذ كانت بدأت بالفعل حملات الترويج له في دور السينما اللبنانية.
ووفق صحيفة "الجمهورية" اللبنانية، فإنّ مرتضى أصدر قراراً في ما يتعلق بموضوع الفيلم جاء فيه أنّه "الفيلم يتعارض مع القيم الأخلاقية والإيمانية ومع المبادئ الراسخة في لبنان، إذ يروّج للشذوذ والتحوّل الجنسي ويسوّق فكرة بشعة مؤدّاها رفض وصاية الأب وتوهين دور الأم وتسخيفه والتشكيك بضرورة الزواج وبناء الأسرة، وتصويرهما عائقاً أمام التطوّر الذاتي للفرد لا سيّما للمرأة".
ونشر وزير الثقافة على موقع "إكس" (تويتر سابقاً) أنّ "عرض الفيلم في لبنان سيكون له أبشع الآثار والنتائج، لا سيّما على الأطفال بشكل خاص والناشئة بشكل عام، لذلك باشرنا بالإجراءات الآيلة لمنع عرض هذا الفيلم في لبنان".
الكويت: "خدش الآداب العامة"
ونقلت وكالة الأنباء الكويتية في 10 من أغسطس/آب الحالي عن عن وكيل وزارة الإعلام لشؤون الصحافة والنشر والمطبوعات رئيس لجنة رقابة الأفلام السينمائية، لافي السبيعي، عن منع فيلم "باربي" والفيلم الأسترالي "تكلّم إليّ" (Talk to me) من العرض.
ووفق السبيعي، فإنّ اللجنة حرصت على "منع كل ما يخدش الآداب العامة أو يحرّض على مخالفة النظام العام والعادات والتقاليد ويدعو إلى أفكار دخيلة على المجتمع".
وهنالك من شجّع قرار اللجنة حظر فيلم "باربي"، فبحسب تعليقات متابعي منصة "إكس" (تويتر سابقاً) منهم من قال إنّ "الكويت ما زالت فيها الخير والدين والأخلاق العالية"، بينما البعض الآخر اعترض على المنع، بحجّة أنّه سيتوفر على المنصات الرقمية دون رقابة في جميع الأحوال، في حين رأى مُعلّقون أنّه كان بالإمكان حذف المشاهد المخالفة دون بلبلة.
لكنّ بعض دول الخليج مثل السعودية والإمارات والبحرين سمحت بعرض الفيلم منذ 10 من أغسطس/آب الحالي، واعتبر أنّ قرار السعودية بعرضه هو "انفتاح ثقافي"، وفق ما أوردته صحيفة "الشرق الأوسط" في تقرير لها سلط الضوء على استقبال المملكة للجمهور العربي من البلدان التي مُنع فيها الفيلم، مثل الكويت بمشاهدة الفيلم الذي يُعرض في أكثر من 60 صالة سينما.
وأشادت الصحافة الغربية بخطوة السعودية، وهو البلد الذي لم يكن فيه دور سينما قبل ثماني سنوات، إذ لفت موقع "هوليوود ريبوتر" وصحيفة "نيويورك تايمز" إلى تفاعل الشبّان السعوديين مع الفيلم من ارتداء الملابس الوردية، وطلي الفتيات أظافرهن بالطلاء الوردي، كما طرحت الصحيفة فكرة أنّ "كون هذا يحدث في السعودية التي تُعد واحدة من أكثر البلدان التي يهيمن عليها الذكور في العالم، أمر محيّر للكثيرين في الشرق الأوسط".
الجزائر.. سحب الفيلم من دون توضيح
ومن جانبها، أصدرت وزارة الثقافة والفنون في الجزائر قراراً بسحب ترخيص عرض فيلم "باربي" بعد ثلاثة أسابيع من عرضه، وذلك لـ"تعارضه مع الأخلاق"، وفق وسائل إعلام جزائرية.
وذكر موقع "النهار أون لاين" الجزائري في تقرير أنّ القرار جاء عقب الجدل الواسع الذي أحدثه منح ترخيص عرض الفيلم، وذلك لـ"ترويجه للمثليّة والتحوّل الجنسي"، وهو "أمر ينافي الدين الإسلامي وقيم المجتمع الجزائري".
وتشرف وزارة الثقافة الجزائرية على محتويات الأفلام المعروضة في دور السينما ويمكنها منع عرضها، إلّا أنّ الوزارة لم تُصدر بياناً أو توضيحاً رسمياً حول أسباب السحب الذي رافقه إطلاق هاشتاج "#أوقفوا_عرض_باربي" على منصة "إكس".
بدورها، نشرت منظمة العفو الدولية (Amnesty International) منشوراً يستنكر حظر الفيلم في الجزائر والكويت، وقالت "الحظر هو جزء من الرقابة المستمرة وقمع حرية التعبير في الجزائر والكويت، يجب عكس قرارات حظر فيلم باربي"، في حين تباينت ردود الفعل على المنشور بين موافق ومعارض باعتبار أنّ هناك قضايا حقوق إنسان يجب التركيز عليها من المنظمة الدولية أهمّ من قضية حظر فيلم.
ما قصة الفيلم؟
تجري أحداث فيلم "باربي" بين عالم "باربي لاند" إذ كلّ الإناث يُطلق عليهن اسم "باربي" وكل الذكور اسم "كين"، والعالم الحقيقي في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية.
ويعرض الفيلم قصة انتقال "باربي" النمطية (Stereotypical Barbie)، التي تؤدّي دورها مارغو روبي، من عالمها المملوء بالمثاليات، ويحكمه النظام الأمومي، إلى العالم الحقيقي، إذ تصطدم "باربي" بواقع منافٍ لما اعتادته، ففي "باربي لاند" تحكم النساء بشكل أساسي، في حين لا يؤدي الرجال أيّ أدوار تذكر.
تتعرف "باربي" على ما معنى أن تكتسب خصائص إنسانية، كتفكيرها في الموت والأزمات الوجودية إضافة إلى تحوّلات جسدية طرأت عليها، ولكي تعود إلى طبيعتها فعليها أن تخوض رحلة إلى عالم البشر يرافقها فيها "كين"، الذي يؤدّي دوره الممثل ريان جوسلنج، والذي بدوره يتعرّف أيضاً على سيادة "النظام الأبوي" (البطريركي) في العالم الحقيقي.
ويُكرّس الفيلم رؤية النسوية والأدوار القيادية للنساء، فالدمية "باربي" في "باربي لاند" تستطيع أن تكون ما تريده، من رئيسة وقاضية ومحامية وطبيبة ورائدة فضاء، لكن في العالم الحقيقي، فحتى مجلس إدارة شركة "ماتيل" (Mattel) المُصنّعة لباربي فجميعهم من الذكور.
يطرح الفيلم قضية التحرّر من قبضة "النظام الأبوي" في مقاربة سيطرة الـ"كين" على عالم "باربي لاند" ومحاولة الـ"باربي" استعادة السيطرة في قالب خفيف وكوميدي بعض الشيء، إلّا أنّه رغم ذلك لم يخلُ من الرسائل النسوية الموجّهة وهو ما أشعل حدّة الجدل.
ما رأي النُقّاد؟
وحول إثارة الفيلم الجدل في بعض البلدان العربية التي اعتبرت الفيلم "يتعارض مع قيم الأخلاق"، يرى الناقد الفني محمد حجازي، أنّ الفيلم يمرّ مرور الكرام على موضوع "المثلية" أو "الشذوذ الجنسي".
ويبيّن حجازي في حديثه مع TRT عربي، أنّ "الغربيين وهوليوود تحديداً تتكلم عن المثلية في الأفلام بشكل طبيعي باعتباره أمراً سائداً في الغرب، وأصبح مشرّعاً في بعض المناطق".
ويضيف: "المُشاهد يستطيع قبول أو رفض هذه الأفكار، مثلاً نحن نرى في بعض الأفلام العنف والسرقة والجرائم في أمريكا والسينما الهوليوودية تعرض ذلك، ومع ذلك لا تمنع هذه الشاكلة من الأفلام".
ويعترض حجازي على قرارات المنع والحظر مبرّراً ذلك أنّ "على المشاهد تقرير ما يقبله أو يرفضه في الفيلم الذي تكون غايته التسلية"، معتبراً أنّ الفيلم مملوء بالجوانب الإيجابية من تسلية وألوان جميلة وخفّة، كما أثنى على أداء البطلين الرئيسيين.
وتَحكُم الأفلام قبل عرضها في دور السينما التصنيف العمري، إذ تصنّف الدول الأفلام وفق قوانينها والمعايير الاجتماعية ورقابتها، إذ تحذف بعض المشاهد التي تتخللها الإباحة أو المثلية الجنسية أو الإساءة للدين، ويشير حجازي إلى أنّه "لو كان هناك مشكلات حقيقية في الفيلم لكان قد خضعَ للرقابة والتصنيف العمري ولم يُمنع".
بدوره، يلفت الناقد الفني المصري أمجد جمال إلى أنّ "باربي" لم يثر الجدل فقط في البلدان العربية، بل إنّ الجدل امتدّ إلى العالم وحتى الولايات المتحدة، فالفيلم اتُهم بأنّه ينال من فكرة الأسرة، ويستهدف زيادة الشرخ بين الرجل والمرأة بسبب تقديمه وجهة نظر نسوية راديكالية، فمصطلح (الأبوية الذكورية) أو (البطريركية) ذُكر عدّة مرات في الفيلم، وفق ما يقوله جمال.
وينتقد جمال اتخاذ مدينة لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا مكاناً لأحداث الفيلم في العالم الواقعي، معللاً ذلك بأنّها "ليست المكان الأمثل لطرح قضية الأبوية الذكورية، لأنّها من الولايات الزرقاء أيّ الديمقراطية، والتي من المعروف أنّ قوانينها وأسلوب الحياة فيها متحرّر وتقدميّ، ولا يصلح انتقاد الأبوية الذكورية في بقعة جغرافية مثلها، فهي مكان غير مناسب للسياق المجتمعي الذي اختير لأحداث الفيلم".
ولا يرى الناقد الفنّي أنّ رسالة العمل مقنعة، ضارباً مثالاً على ذلك في تصوير العالم الواقعي في الفيلم للرجال بأنّهم "مستغلون جنسياً ومتحرشون ومسيطرون على كل الوظائف القيادية، وعلى جميع المهن المهمة"، حسب قوله، ومشدداً على الانحياز والتوجيه الذي تخلله الفيلم.
وفيلم "باربي" مصنف عمرياً "PG-13"، والذي يعني أنّ مشاهدته من عمر 13 عاماً تكون بإشراف أسري، بينما يرى جمال أنّ التصنيف العمري يجب أن يكون من 18 عاماً بسبب موضوع الفيلم وطرحه لأفكار جريئة وموجّهة ولا يصلح للأطفال تقييمها، رغم أنّ العمل قائم على أشهر دمية يلعب فيها الأطفال، وسبق أن روّج صنّاعه إلى أنّ الفيلم موجّه للجميع.
ويختتم جمال قوله إنّ الميزة الكبرى في الفيلم استطاعته جذب جماهير عريضة وتخطّي إيراداته المليار، رغم أنّه ليس من الأفلام الضخمة مثل أفلام الأبطال الخارقين أو الأكشن "Blockbuster Movie"، والنقطة التي تحسب له أنّه استطاع جذب جماهير السينما العاديّة، نتيجة كثرة الدعايات والإعلانات التي سبقت عرضه، وخاصّة لتزامنه مع عرض فيلم كريستوفر نولان "أوبنهايمر" وما رافقها من ظاهرة "باربنهايمر"(Barbenheimer) التي اكتسحت مواقع التواصل الاجتماعي.