قبل عقد من اليوم، في 13 يناير/كانون الأول 2013، أعلنت فرنسا إطلاق أول عملية عسكرية في الساحل، "سيرفال"، لكبح تقدم ميليشيات المتشددين المسلحة من الشمال نحو العاصمة المالية باماكو. وعقبها تعددت العمليات الفرنسية في المنطقة دون تحقيق نتائج ملموسة، مقابل العداء الشعبي الواسع الذي أثارته ضدها.
وبعد عشر سنوات من ذلك، تجد فرنسا نفسها اليوم مطالبة بالانسحاب من الساحل، وهو ما أعلنه الرئيس ماكرون شهر نوفمبر/تشرين الثاني، عبر إنهائه رسمياً عملية "بارخان". كما أعلنت باريس تغيير استراتيجيتها بشأن المنطقة، ما يشمل سحب قواتها من المنطقة وتعويضها بدعم مباشر للجيوش الحكومية هناك.
هزائم وانسحابات
بلغ مجموع القوات التي نشرتها فرنسا في الساحل، منذ تدخلها الأول، نحو 5500 عنصر متفرقة على عمليات أربع. وتمثلت عملية "سيرفال" الفرنسية في الأساس على تنفيذ ضربات جوية ضد مواقع المسلحين، لتتلوها عملية "سابر" التي اهتمت بالأساس بتدريب القوات الحكومية في دول الساحل وتنفيذ عمليات خاصة عبر قوات النخبة، ثم "بارخان". وخلفت هذه العمليات آلافاً من القتلى الأفارقة، و59 جندياً فرنسياً راحوا ضحيتها.
استراتيجياً لم يحقق التدخل العسكري الفرنسي أهدافه المرجوة، وإلى اليوم لازال المسلحون يروعون السكان في مثلث مالي النيجر وبوركينا فاسو. آخرها المذبحة التي شهدتها بوركينا فاسو أواخر ديسمبر/كانون الثاني الماضي، وأودت بحياة 28 مدنياً. هذا الفشل الذي أثار سخطاً عارماً ضد الوجود الفرنسي في الساحل، ومهد لخروجها من المنطقة.
وصولاً إلى عام 2021، برز ضد فرنسا عدو جديد، هو الانقلابات التي أطاحت بالحكومات الحليفة لها في مالي وغينيا وبوركينا فاسو. كما سقط رجل باريس في تشاد، الرئيس إدريسا ديبي، قتيلاً برصاص المتمردين الذي كانوا على أعتاب العاصمة إنجامينا.
هذه الانقلابات التي جرت معها قطيعة هذه الدول مع المستعمر السابق، ومقابل ذلك توجهت نحو موسكو للبحث عن الدعم العسكري من مرتزقة فاغنر المقربين من الكرملين. على رأس هذه الدول كانت مالي، التي بلغ توترها مع فرنسا حد قطع العلاقات العسكرية، واتهام الحكومة المالية قوات باريس بالتآمر عليها ودعم المسلحين.
وتشهد منطقة الساحل تنامياً للشعور الشعبي المناهض للوجود العسكري الفرنسي هناك، وهو ما تعبر عنه الاحتجاجات العديدة المطالبة برحيل فرنسا عن تلك البلدان. وقبل مظاهرات واغادوغو التي طالبت بجلاء القوات الفرنسية، شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، شهدت مناطق من النيجر احتجاجات مماثلة أواخر شهر سبتمبر/أيلول الماضي. وندد النيجريون خلالها بالوجود العسكري الفرنسي على أراضي بلادهم التي أصبحت معقل قوات عملية بارخان بعد أن جرى سحبها من مالي شهر يوليو/تموز.
وفي تشاد كذلك شهر مايو/أيار الماضي خرج آلاف بمظاهرات واسعة رافضة للنفوذ الفرنسي في البلاد، استجابة لدعوات كان عممها ائتلاف "وقيت تما" (حان الوقت) المعارض. ووفق ما ذكره وقتها شهود عيانٍ فإن متظاهرين هاجموا قاعدة عسكرية للقوات الفرنسية في أبشي أقصى شرقي البلاد، وحطموا نصباً تذكارياً كان بداخلها.
تغير في الاستراتيجية الفرنسية
في 9 نوفمبر الماضي، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رسمياً انتهاء عملية "بارخان"، كاشفاً عن تحوُّل استراتيجية بلاده العسكرية الجديدة في الساحل، حيث لا تزال فرنسا تنشر نحو 3000 جندي.
وقال ماكرون خلال خطابه: "سنطلق في الأيام المقبلة مرحلة مشاورات مع شركائنا الأفارقة وحلفائنا والمنظمات الإقليمية من أجل أن نطوّر معاً وضع وشكل ومهمات القواعد العسكرية الفرنسية الحالية في منطقة الساحل وغرب إفريقيا (...)، هذه الاستراتيجية التي ستكون جاهزة خلال ستة أشهر".
ومن خطوط هذه الاستراتيجية مواصلة فرنسا وجودها العسكري في الساحل، لكن اشتراطه برغبة الدول الحليفة له هناك. وفي هذا أوضح: "سيتواصل دعمنا العسكري للدول الإفريقية في المنطقة، لكن وفق الأسس الجديدة التي حدّدناها مع هذه الدول (...)، وسيتكيّف دعمنا مع مستوى كل دولة حسب الحاجات التي سيعبّر عنها شركاؤنا".
وبعدها بعشرة أيام، خرج وزير الجيوش الفرنسي سيباستيان لوكورنو، في حديثه إلى أسبوعية "لو جورنال دو ديمانش" الفرنسية، مؤكداً أن "من الواضح أن مراجعة استراتيجيتنا العامة في إفريقيا تطرح أسئلة حول جميع مكونات وجودنا، بما في ذلك القوات الخاصة".
وفي هذا الصدد أوضح وزير الجيوش الفرنسي أن بلاده تعمل حالياً على "تنظيم شكل القواعد العسكرية الحالية التي ينبغي أن تحتفظ بقدرات معينة لحماية مواطنينا على سبيل المثال، ولكن أيضاً للتوجه بقدر أكبر نحو تدريب الجيوش المحلية"، في حين أن ذلك الوجود "لم يعُد يتعلق بمكافحة الإرهاب عوضاً عن شركائنا، بل بتنفيذ ذلك معهم، إلى جانبهم".
وفي هذا الصدد، أعلنت المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا "إيكواس"، تأسيس جيش مشترك بغرض "إعادة ضبط بنيتهم الأمنية"، على حدّ تعبير رئيس المجموعة عمر توراي في تصريحاته لوكالة الأنباء الفرنسية. يأتي هذا القرار، وفق ذات المسؤول، لمكافحة توسع خطر الجماعات الإرهابية في أراضيها، ومكافحة الانقلابات العسكرية التي تهزّ عدة بلدان منها في السنتين الأخيرتين.
وإن كان العداء المتنامي للوجود العسكري الفرنسي في الساحل، مُضافاً إلى فشل باريس في مكافحة التهديد الأمني للجماعات المسلحة في المنطقة، من أهمّ الدوافع الرئيسية لتغيير فرنسا استراتيجيتها العسكرية هناك، فإن قرار مجموعة "إيكواس" الأخير يدخل ضمن هذه التطورات الحاصلة.
هذا ما يكشف عنه إسماعيل محمد طاهر، الأستاذ الجامعي من تشاد الباحث في الشؤون الإفريقية، في حديثه إلى TRT عربي، قائلاً: "القرار الأخير الذي اتخذته مجموعة إيكواس هو رد فعل طبيعي للتطورات الحاصلة، وعلى رأسها انسحاب القوات الفرنسية من مالي وإعلانها إنهاء عملية بارخان، بعد أن وضعت فرنسا في وضع محرج نظراً إلى تكلفة العملية المرتفعة وفشلها في تحقيق أهدافها (...)، بالتالي فانسحاب فرنسا من هناك يترتب عليه أن يشكل إيكواس تلقائياً تلك القوة العسكرية".
ويضيف الأستاذ الجامعي موضحاً: "مثل هذه القرارات ليس بجديد على القارة الإفريقية، ومثل هذه الكيانات كُوّنَت شفهياً كثيراً، لكن على أرض الواقع دائماً نجد أن صداها لا يكون قوياً، بخاصة أن غرب إفريقيا منطقة فيها كثير من التجاذبات السياسية. ومسألة النفقات العسكرية التي ستكون عائقاً أيضاً أمام هذا القرار، وتنسيق وانسجام الأطراف المشاركة في القوة".
يختم الباحث التشادي حديثه قائلاً: "يترتب على تطبيق هذا القرار أمران اثنان: الأول متعلق بمدى قابلية هذا القرار للتنفيذ ومدى فاعليته في تحقيق مهامه في ظل التجاذبات بين القوى العظمى في تلك المنطقة، من بينها فرنسا والصين وروسيا والولايات المتحدة، وتبعية الدول لتلك القوى. وثانياً مدى قدرة هذه القوة الجديدة على التعامل مع القوات الفرنسية في المنطقة، وفقاً لما أعلنته باريس مؤخراً من استراتيجية عسكرية جديدة لها هناك، وعلاقة ذلك القرار بالمتغيرات الجارية في شرق أوروبا".