احتجاجات تطالب بجلاء قواتها، هجمات استهدفت سفارتها، وانقلابات أزاحت رجالها من السلطة. هذه هي المشاهد التي تطبع الأيام الأخيرة التي يمر بها الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، وعلاقاتها مع تلك الدول حيث كانت، حتى وقت قريب، اللاعب الدولي الأبرز داخلها.
بالمقابل، المشترك بين كل مظاهر التوتر هذه هو حضور العلم الروسي في أغلبها، ما يحيل على التنافس الشرس القائم بين باريس وموسكو، حول النفوذ الاستراتيجي في إفريقيا. بينما يتكئ الكرملين على قوة متعهد الدفاع المقرب منه، فاغنر، الذي يكسب رهان ثقة السلطات الجديدة في عواصم الساحل.
النيجر تتظاهر ضد فرنسا
بالآلاف خرج المتظاهرون في العاصمة النيجرية نيامي، أواخر سبتمبر/أيلول المنصرم، منددين بالوجود العسكري الفرنسي على أراضي بلادهم، التي أصبحت المعقل الأساسي لقوات عملية بارخان التي تقودها باريس، بعد أن جرى سحبها من مالي شهر يوليو/تموز.
وكانت حركة "إم 62" هي الداعي للمظاهرة، التي ردد المشاركون فيها شعارات "اطردوا فرنسا"، حاملين رايات بلادهم جنباً إلى جنب مع الرايات الروسية. وتعتبر "إم 62" الوجود العسكري الفرنسي مساساً بسيادة البلاد، واستمراراً لما تصفه بـ"الاستعمار"، إضافة إلى عرقلة أي تعاون يمكن أن يقع بين النيجر وجيرانها الماليين.
ووسط الجمع المتجمهر أمام البرلمان النيجري، وقف زعيم الحركة عبد اللاي سيدو، مخاطباً: "الاستهانة بسيادة بلادنا كما يلاحظ العالم من خلال الوجود العسكري الأجنبي بدون أدنى احترام لأي قوانين، بخاصة القوات الفرنسية، يجعلنا نتمسك بمطلب الاستقلال الحقيقي وليس الافتراضي كما هو الحال الآن".
يأتي ذلك فيما قررت فرنسا مؤخراً الاحتفاظ بأكثر من 400 جندي لها في النيجر، بعد انسحابها من مالي. ويصل عدد القوات الفرنسية على الأراضي النيجرية إلى ألف جندي، يخدمون ضمن عمليتي بارخان وسابر. هذا إضافة إلى قاعدتين عسكريتين، أبرزهما قاعدة نيامي الجوية.
سقوط رجل باريس في وغادوغو
من جهة أخرى، أعلن المجلس العسكري الحاكم في بوركينا فاسو، الأربعاء، عن تنصيب الكابتن إبراهيم تراوري رئيساً انتقالياً للبلاد. بعد نحو أسبوع من انتزاع تراوري الحكم من يد زميله في السلاح، اللفتنانت كولونيل بول هنري داميبا، عبر انقلاب عسكري هو الثاني الذي تعرفه البلاد في أقل من سنة.
وبرّر الانقلابيون تحركهم ضد داميبا، بفشله في تحقيق الأمن في البلاد، التي تعاني تزايد وتيرة الهجمات الإرهابية، وتتصدر دول الساحل في ترتيب عدد ضحايا تلك الهجمات. وحسب وكالة الأناضول، في شهر أبريل/نيسان الماضي وحده، قُتل ما لا يقل عن 240 شخصاً، بينهم 108مدنيين. وفي 14 يونيو/حزيران الماضي، شهدت مدينة ستينغا شرقي البلاد أعنف هجوم إرهابي هذه السنة، سقط جراءه 79 قتيلاً، من بينهم 68 مدنياً و11 عسكرياً.
وفي السياق ذاته، اتهمت السلطات البوركينابية الجديدة القوات الفرنسية بتقديم الدعم للرئيس المخلوع، في التخطيط لهجوم مضاد ضدها. ما أثار موجة سخط شعبي ضد باريس، ترجمت في مظاهرات شعبية حاشدة، وهجمات استهدفت سفارة باريس في واغادوغو، تخللها إضرام نار في مبنى السفارة.
رداً على ذلك، أعلنت سفارة فرنسا لدى بوركينا فاسو، الأربعاء، إغلاق القنصلية العامة ووقف جميع خدماتها حتى إشعار آخر. مرجعة ذلك، في بيان، إلى أن "الوضع لا يزال متقلباً في واغادوغو وبوبو ديولاسو (العاصمة الاقتصادية)، وهذا يدفعنا إلى تجديد نصائحنا بتوخي الحذر الشديد".
ويرى مراقبون، بأن الرئيس ماديبا كان رجل باريس في أعلى هرم السلطة ببوركينا فاسو. فيما أشار المنقلبون عليه إلى أن البلاد تبحث عن حليف استراتيجي آخر في حربها ضد الجماعات الإرهابية، عوض الوجود العسكري الفرنسي الذي لم يحقق نجاعة في ذلك.
هذا الحليف الاستراتيجي الجديد ليس إلا موسكو، التي رفع المحتجون الداعمون للانقلاب أعلامها مقرونة بعلم بلادهم. وهو ما يؤكده المختص في منطقة الساحل بجامعة كينت البلجيكية إفان غيشوا، بقوله إن "الانقلابيين يضعون أنفسهم بوضوح داخل منطق وجود تنافس روسي فرنسي حول الساحل (...) فمن المدهش أن نراهم بسرعة يغازلون حليفهم الاستراتيجي الجديد (روسيا) حتى قبل أن يحسموا السلطة لأنفسهم".
تتهمها مالي بدعم الإرهاب
ما زالت العلاقات الفرنسية المالية تعرف نفس الموت السريري، الذي بدأت في الانحدار نحوه منذ الانقلاب الثاني الذي قاده الكولونيل آسمي غويتا، صيف 2021. وزادت توتراً بعد استعانة المجلس العسكري المالي بمرتزقة فاغنر الروسية، ليرتفع مستوى التوتر بين الجانبين بعد انسحاب القوات الفرنسية من البلاد.
وفي آخر تطورات العداء الناشب، اتهمت باماكو نظيرتها باريس بدعم الجماعات الإرهابية، بمنحها الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية، حول مواقع تمركز الجيش المالي ومسلحي فاغنر. وفي 26 أبريل/نيسان الماضي، قال المجلس العسكري الحاكم في بيان إنه "لاحظ منذ بداية العام أكثر من 50 حالة انتهاك متعمدة للمجال الجوي المالي من قبل طائرات أجنبية، خصوصاً طائرات تابعة للقوات الفرنسية".
وفي الإطار ذاته، أردف البيان: "الوجود غير القانوني لطائرة مُسيّرة تابعة للقوات الفرنسية في 20 أبريل/نيسان 2022 فوق قاعدة غوسي. وبالإضافة إلى التجسس، كانت القوات الفرنسية مذنبة بأعمال تخريب بنشرها صوراً كاذبة ملفقة لاتهام (جنود ماليين) بارتكاب جرائم قتل ضد مدنيين".
هذه المعطيات التي أكدها الرئيس الانتقالي المالي عبد الله مايغا، في كلمته خلال المناقشات رفيعة المستوى للدورة الـ77 للجمعية العامة للأمم المتحدة، أوخر سبتمبر/أيلول، حيث قال بأن "الأفعال العدائية التي تمارسها فرنسا ضد بلادي تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة، كما أنها لا تتفق مع عضوية فرنسا الدائمة بمجلس الأمن الدولي".
ودعا مايغا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، للتدخل "من أجل عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي بهدف عرض الأدلة التي تمتلكها مالي بشأن تورط السلطات الفرنسية في دعم الإرهاب ووقف الازدواجية والحرب بالوكالة المفروضة على مالي".
وحسب مسؤولين أمنيين، فإن رقعة العداء المتنامي في الساحل ضد فرنسا مرشحة للاتساع، كي تشمل بلداناً أخرى من غرب إفريقيا، كالسنغال وساحل العاج، حيث "رياح شعار "اطردوا فرنسا" تهب كذلك في داكار وأبيدجان، رغم أنها تكتفي الآن فقط بالهمسات" حسب ما صرح به مسؤول أمني لوكالة الصحافة الفرنسية.