يواجه العالم حاجة ملحّة إلى وقف زيادة مستويات غازات الدفيئة التي تتراكم في الغلاف الجوي للأرض، التي تتسبب بظاهرة تغيّر المناخ وتأثيراتها التي نشهدها بوضوح اليوم، بدءاً من حرائق الغابات إلى موجات الحرارة الخانقة وارتفاع مستوى سطح البحر إلى مستويات مدمرة.
وفيما لا يزال العالم يصدّر مزيداً من الانبعاثات كل عام، فإنّ هذه التأثيرات الكارثية سوف تستمر في التفاقم ما لم نُجرِ تغييرات جديّة في أنظمة النقل والتصنيع وإنتاج الطاقة.
ونظراً إلى التقدّم المحدود في الخفض السريع لانبعاثات غازات الدفيئة العالمية، أو تخفيفها على مدى العقود الماضية، تبرز الحاجة إلى إجراءات حاسمة لتحقيق الأهداف المناخية الطموحة بالوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول العام 2050، ووقف الارتفاع في درجة الحرارة العالمية عند 1.5 درجة مئوية في نهاية هذا القرن قياساً بعصر ما قبل الصناعة، وهو الهدف الذي اجتمع عليه العالم في اتفاق باريس التاريخي.
ومنذ الثورة الصناعية، أطلقت البشرية أكثر من 2000 غيغاطن من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، لذا وللحفاظ على ارتفاع درجة الحرارة العالمية إلى أقل من 1.5 درجة مئوية، وهو ما يقول العلماء إنّه ضروري لمنع أسوأ تأثيرات تغيّر المناخ، لن نحتاج فقط إلى تقليل الانبعاثات ولكن أيضاً إلى إزالة وتخزين بعض الكربون الموجود بالفعل بالجو.
توصية أممية
شكّل مؤتمر المناخ الأخير في دبي (COP28) نقطة فارقة في تاريخ العمل المناخي العالمي، إذ أشار الاتفاق الختامي الذي حظي بتوافق 198 طرفاً من جميع أنحاء العالم، إلى التحول بعيداً عن جميع أنواع الوقود الأحفوري، والحاجة إلى خفض عميق وسريع ومستدام لانبعاثات غازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري بما يتماشى مع هدف 1.5 درجة مئوية.
وإلى جانب زيادة قدرات الطاقة المتجددة، والاعتماد على الوقود منخفض أو عديم الكربون بحلول منتصف القرن، أوصى اتفاق الإمارات بتسريع الاعتماد على التقنيات التي تسهم في تخفيف وإزالة الانبعاثات، مثل احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه، ولا سيما في القطاعات التي يصعب فيها تطبيق تدابير التخفيف.
احتجاز الكربون وتخزينه
تكنولوجيا احتجاز وتخزين الكربون Carbon Capture and Storage CCS هي مجموعة متكاملة من التقنيات التي يمكنها منع إطلاق كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي نتيجة استخدام الوقود الأحفوري.
وتتمثل الخطوة الأولى في هذه العملية بالالتقاط، وتعني فصل ثاني أكسيد الكربون عن الغازات الأخرى المنتجة في المنشآت الصناعية الكبيرة مثل محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم والغاز الطبيعي، ومصانع الصلب، ومصانع الأسمنت، ومصافي التكرير قبل دخوله الغلاف الجوي.
وبمجرد فصله، يُضغط ثاني أكسيد الكربون ويُنقل عبر خطوط الأنابيب أو الشاحنات أو السفن أو طرق أخرى إلى موقع مناسب للتخزين الجيولوجي، قبل أن يصل إلى مرحلة التخزين الأخيرة إذ يحقن ثاني أكسيد الكربون في التكوينات الصخرية العميقة بشكل دائم تحت الأرض، على أعماق تصل إلى كيلومتر واحد أو أكثر.
بالإضافة إلى احتجاز الكربون وتخزينه (CCS)، يوجد مفهوم آخر ذو صلة، هو احتجاز واستخدام وتخزين الكربون "Carbon Capture, Utilization and Storage" (CCUS)، والذي يشير إلى إمكانية إعادة استخدام الكربون المحتجز في العمليات الصناعية عن طريق تحويله، على سبيل المثال، إلى مواد بلاستيكية أو خرسانة أو وقود حيوي.
وحسب بيانات وكالة الطاقة الدولية، يوجد اليوم نحو 40 منشأة احتجاز تجارية قيد التشغيل على مستوى العالم، بقدرة احتجاز سنوية إجمالية تزيد على 45 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون، في حين جرى إعلان أكثر من 50 منشأة احتجاز جديدة تستهدف التشغيل بحلول عام 2030 منذ يناير/كانون الثاني 2022، لالتقاط نحو 125 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً، ومع ذلك، حتى عند هذا المستوى، سيظل نشر احتجاز وتخزين الكربون أقل بكثير (نحو الثلث) من قرابة 1.2 غيغاطن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً وهو المطلوب في سيناريو صافي الانبعاثات الصفرية بحلول عام 2050.
إزالة الكربون من الغلاف الجوي
تشير تقنية إزالة الكربون "CDR) "Carbon Dioxide Removal) إلى الطرق التي تعمل على إزالة ثاني أكسيد الكربون الموجود بالفعل في الغلاف الجوي، وتتضمن مجموعة من الأساليب، بدءاً من زراعة وإعادة زراعة الأشجار، وعزل الكربون في التربة، وإزالة الكربون من الكتلة الحيوية ثم تخزينه، وصولاً إلى الأساليب التكنولوجية الأحدث مثل التقاط الكربون من الهواء بشكل مباشر، وعمليات "التمعدن" أي تحويل الكربون إلى معادن.
تزيل النباتات ثاني أكسيد الكربون من الهواء بشكل طبيعي، ومن خلال عملية التمثيل الضوئي يمكن للأشجار امتصاص كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون وتخزينه في الأوراق والجذوع، كما تملك المحيطات، التي تغطي أكثر من 70% من مساحة كوكب الأرض، القدرة على عزل الكربون.
وتتمتع النظم البيئية للكربون الأزرق، والتي تشمل أشجار المانغروف والمستنقعات والأعشاب البحرية، بقدرة هائلة على تخزين الكربون داخل النباتات والكتلة الحيوية الحيوانية لفترات طويلة من الزمن.
وتشير التقديرات إلى أنّ الاستثمارات في هذه النظم البيئية يمكن أن تلتقط وتخفض الانبعاثات بما يقرب من 4 غيغاطن من الكربون سنوياً في عام 2030 وبأكثر من 11 غيغاطن من الكربون سنوياً في عام 2050.
ويختلف مصطلح إزالة الكربون عن احتجاز الكربون، إذ يوصف احتجاز الكربون وتخزينه (CCS) بأنه وسيلة لتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة من مصدر ثابت للوقود الأحفوري أو القطاع الصناعي أو عمليات إنتاج الطاقة قبل أن يتسرب إلى الهواء، في حين تزال عناصر الكربون الموجود مسبقاً في الغلاف الجوي.
وفي حين تختلف عمليات الإزالة عن عمليات الاحتجاز من حيث المكان الذي يُجمع ثاني أكسيد الكربون منه، فإنّ كلاً من عمليات الاحتجاز أو الإزالة تتطلب مكاناً ما لعزل ثاني أكسيد الكربون الذي نحصل عليه.
ما دورها في تغير المناخ؟
يعتبر ثاني أكسيد الكربون المحرك الرئيسي لتغير المناخ الذي يسببه الإنسان، ويبقى جزء كبير من جميع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي لمئات أو آلاف السنين، ومن خلال تنظيف ثاني أكسيد الكربون وخفض مستوياته في الغلاف الجوي، يمكن أن تساعد عملية إزالة الكربون في إبطاء تغير المناخ أو حتى عكس اتجاهه.
ولا تعتبر تقنيات إزالة الكربون أو احتجازه بديلاً لخفض الانبعاثات، إذ إنّ التحدي الأكبر الذي يواجه وقف تغير المناخ هو الحد من الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحراري، بما في ذلك ثاني أكسيد الكربون، يمكن أن توفر عملية إزالة الكربون مكملاً أساسياً لخفض الانبعاثات، ولكنها عملية بطيئة ومكلفة للغاية.
تحديات ومخاطر
يشكّل بطء اعتماد تكنولوجيا إزالة واحتجاز ثاني أكسيد الكربون واستخدامه وتخزينه، والخوف من أنّ احتجاز وتخزين الكربون سيؤدي إلى إطالة أمد استخدام الوقود الأحفوري واستمرار الآثار الصحية والاجتماعية السلبية الناجمة عن انبعاث المصانع، المصدرَين الرئيسيَّين للمخاوف المتعلقة بالتنفيذ الموسع لهذه التكنولوجيا.
ولا أمثلة كثيرة حتى الآن على التطبيق الناجح لهذه التقنية، بل إنّ عدة مشاريع فشلت وتخلّت عنها، وعلى عكس عديد من التقنيات النظيفة الأخرى (مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح)، لا يمكن إنتاج أنظمة احتجاز وتخزين الكربون بكميات كبيرة لأنّها مصمّمة خصّيصاً لتتناسب مع المنشأة التي تلتقط ثاني أكسيد الكربون.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ كل نظام احتجاز له تكاليف أوليّة باهظة، غالباً ما تزيد على مليار دولار، وقد تثني مطوري المشاريع عنها، لكن من المتوقع أن تنخفض التكاليف مع بدء تشغيل مزيد من المشاريع، وتحسّن التكنولوجيا وانخفاض تكاليف التمويل.
كما يواجه عملياتِ النقل والعزل الجيولوجي لثاني أكسيد الكربون مخاطر عدة، وعلى الرغم من أنّه غاز غير قابل للاشتعال، فإن تسرّب هذا الغاز بتركيزات عالية من خطوط أنابيب النقل، يمكن أن يسبب كثيراً من التأثيرات الصحية والبيئية خاصة في مواقع العمل.
أحد الشواغل الرئيسية المرتبطة بتقنيات احتجاز وتخزين الكربون هو المخاطرة ببقاء الآثار الصحية والبيئية السلبية الناجمة عن المنشآت كثيفة الانبعاثات، ويُنظر إليه على أنّه ضمادة للتغطية على هذه الصناعات الملوّثة، التي تضر بشكل غير متناسب بالمجتمعات الضعيفة التي تحملت تاريخياً مستويات غير متناسبة من تلوث الهواء والانبعاثات السامة.
يمكن لأنظمة احتجاز الكربون أن تقلل بشكل كبير الملوثات الضارة، ولكن في كثير من الحالات، تفضل المنظمات المجتمعية وغيرها من المدافعين عن البيئة إغلاق هذه المنشآت الملوثة والتركيز بدلاً من ذلك على عمليات الإنتاج الأنظف، مثل مصادر الطاقة المتجددة في قطاع الطاقة.