يعاني الجميع تقريباً من آلام الرقبة والظهر في مرحلة ما من الحياة، وهي من أكثر الأسباب شيوعاً التي تدفع المريض إلى زيارة الطبيب لكونها تتعارض مع الأنشطة اليومية، ولحسن الحظ يمكن للمريض التحسّن باتخاذ تدابير منزلية لمنع أو تخفيف معظم نوبات آلام الرقبة والظهر.
كيف يسبّب التوتر آلام الرقبة والظهر؟
دائماً ما تُربَط آلام الظهر والرقبة بالإجهاد الجسدي، ونمط المعيشة، والإصابة بأمراض معيَّنة، وغيرها من الأسباب، ولكن قلّما نسمع عن أسبابٍ أخرى مرتبطةٍ بالصحة النفسية على الرغم من وجود رابط مباشر بينهما، وهذا ما تؤكّده دراسة بحثية تحت عنوان "الألم المزمن والتوتر المزمن.. وجهان لعملة واحدة؟"، تشرح العلاقة الوثيقة بين التوتر المزمن والألم المزمن، فكيف يحصل هذا؟
يفرز الجسم هرمون الكورتيزول المعروف باسم هرمون التوتر إلى جانب عديد من المواد الكيميائية الأخرى كاستجابة نفسية طبيعية عند الشعور بالخوف أو التوتر، وهذا مفيدٌ على المدى القصير لكي يتمكن الجسم من التعامل مع عوامل الخطر والتهديدات المختلفة في الحياة اليومية، وهذا مهمٌّ أيضاً لتعزيز بناء ذاكرة قائمة على عامل الخوف هذا لكي يتمكّن الجسم من تخزين ذاكرة هذه التجربة والرجوع إليها عند التعرُّض للخطر في المستقبل، ولكن في حال استمرت هذه الاستجابة لفترة طويلة فإنّ ذلك يؤدي إلى اختلال وظيفي للكورتيزول، فارتفاع مستوياته يحفز مراكز الألم في الدماغ مما يسبّب بدوره الشعور بآلام مختلفة في الجسم قد تشمل آلام الظهر والرقبة.
تتشنج العضلات في أثناء التوتر في الوضع الطبيعي، ولكنّها تعود إلى وضع الارتخاء بعد مرور مرحلة التوتر، ولكنّ الضغوط النفسية المزمنة تسبّب عدم حصول العضلات على فرصةٍ للاسترخاء مما يسبّب بصورة مباشرة آلام الظهر والرقبة.
يؤمن جون سارنو، طبيب وأستاذ الطب الفيزيائي وإعادة التأهيل في جامعة نيويورك الأمريكية، بأنّ التوتر المزمن قد يسبّب تغيرات في الجهاز العصبي للجسم، وتشمل هذه التغيرات انقباض الأوعية الدموية وانخفاض تدفق الدم إلى الأنسجة، بما في ذلك العضلات والأوتار والأربطة والأعصاب في الظهر والرقبة. يسبّب هذا انخفاضاً في الأكسيجين وتراكم مخلفات الجسم الكيميائية الحيوية في العضلات، وهذا بدوره يؤدّي إلى تشنُّج العضلات، وبالتالي آلام الظهر والرقبة.
يشير بنيامين بونتي، طبيب وأستاذ الطب الفيزيائي وإعادة التأهيل في مركز Hudson Medical Wellness الأمريكي، إلى أنّ التأثيرات النفسية المستمرة خلال جائحة فيروس كورونا تلقي بظلالها على مزيد من المشكلات الجسدية، بما فيها آلام الظهر والرقبة، إذ يسبّب القلق والخوف من تداعيات الجائحة توترّ العضلات وتشنُّجها باستمرار، وتقليل عتبة الألم لدى كثيرين، فإلى جانب تسبّب هذا التوتر في ظهور آلام الظهر والرقبة بشكل مباشر لدى البعض، فإنّه يزيد سوء هذه الآلام لدى الأشخاص المصابين بها من قبل بسبب عوامل جسدية أو أمراض أخرى.
نصائح عملية لتخفيف التوتر المزمن
تبيّن الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA) أنّ بعض التغييرات في النظام اليومي إلى جانب أداء تقنيات وتمارين الاسترخاء من شأنه تخفيف أعراض التوتر المزمن على المدى الطويل، التي تشمل آلام الرقبة والظهر، وذلك من خلال المساهمة في تهدئة العقل، وتقليل كمية هرمونات التوتر في الدّم، ومساعدة العضلات على الاسترخاء، ورفع مستوى الإحساس بالعافية.
تساعد ممارسة التمارين الرياضية بانتظام على تقليل مستويات التوتر في الجسم، وذلك عن طريق رفع مستوى هرمون الإندورفين المعروف باسم هرمون السعادة، كما تفيد تمارين الإطالة الخاصة بالرقبة والظهر في تخفيف أعراض التوتر حسب كافيتا تريفيدي، طبيبة وأستاذة الطب الفيزيائي وإعادة التأهيل في المركز الطبي الجنوبي الغربي بجامعة تكساس الأمريكية (UT Southwestern). من المهم طلب نصيحة المختصين حول تمارين الإطالة المناسبة والآمنة للرقبة والظهر التي قد تختلف من شخص إلى آخر.
من شأن تمارين الاسترخاء المساهمة في تقليل حدّة التوتر المزمن، وتشمل هذه التمارين اليوغا، والتنفس العميق، والتدليك، وممارسة التأمل، وغيرها كثير. يُعتبر التأمل من التقنيات التي مارسها الإنسان على مدى آلاف السنين، وهو يقوم على فكرة تركيز الانتباه وإبعاد سلسلة الأفكار المشوشة التي تجعل العقل مزدحماً بالأفكار وتسبّب الضغوط النفسية. من الجيد البدء بـ5 دقائق من التأمل، مع زيادة المدّة بضع دقائق كل أسبوع.
من تمارين الاسترخاء الأخرى ما يُطلَق عليه اسم "استرخاء العضلات التدريجي" (PMR) ، ومن الممكن ببساطة أداؤها عن طريق شدّ عضلة أو مجموعة عضلات بأقصى حدّ، ثمّ إرخاء العضلات تماماً مع الحفاظ على التنفس بعمق قبل الانتقال إلى عضلات أخرى. من الأفضل فعل ذلك بانتظام، مثل البدء بعضلات الرأس نزولاً حتى الوصول إلى أصابع القدمين، أو بالعكس. كبداية، 15-20 دقيقة من استرخاء العضلات التدريجي كفيلٌ بخفض التوتر والقلق، وقد أكّد عديد من الدراسات فائدة هذه التقنية، منها ما نشرته مجلة PLoS One التي درست فاعلية هذه التقنية في تخفيف التوتر وقارنتها بالتدليك لتخفيف ألم الرقبة المزمن.
جدير بالذّكر عدم وجود أسلوبٍ صحيحٍ صالحٍ للجميع، فما قد يفيد أحدهم ليس بالضرورة أن يفيد الجميع، لذلك على كلّ شخص معرفة أنسب تقنيات الاسترخاء له.
ينصح بعض الإخصائيين بالتحدث عن سبب التوتر والقلق مع الآخرين، فقد تساعد مشاركة المشاعر والمخاوف مع العائلة والأصدقاء وزملاء العمل الشخص على التخلص من التوتر وتقليل مشاعر العزلة. قد يتمكن الأشخاص الآخرون من اقتراح حلول غير متوقَّعة وقابلة للتطبيق لتخفيف الإجهاد النفسي. تَذكَّر دائماً أنّ وجودك ضمن مجموعة من شأنه تقليل خطر الإصابة بالتوتر، إلى جانب توفير الدعم والمساعدة العملية عند المرور بظروف صعبة.
من المهمّ بناء عادات صحية في سبيل تخفيف التوتر العامّ والحصول على غذاء صحي ومتوازن إلى جانب تجنُّب كثرة شرب القهوة وغيرها من المنبهات، التي من شأنها التأثير في كفاءة النوم ورفع مستوى التوتر، كما يُنصح بالإقلاع عن التدخين بسبب تأثيراته السلبية على تدفق الدّم.
لا تتردّد واطلب المشورة النفسية من الطبيب
على الأشخاص الذين يجدون أن التوتر يؤثر في حياتهم اليومية طلب المساعدة الطبية بأسرع وقت، إذ من الممكن في حالات كهذه وجود أمراض واضطرابات نفسية تستدعي التدخل الدوائي وغيرها من العلاجات كالعلاج السلوكي المعرفي القائم على الكلام، فكثير من الأدلة يشير إلى أنّ الجمع بين العلاجات الدوائية والعلاجات النفسية قد يكون أكثر فائدة من أيهما بمفرده، إلى جانب أنّ إخصائي الطب النفسي قد يساعد على تدريب الشخص على التقنيات المختلفة لتخفيف التوتر في الحياة اليومية.