كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية ظهراً، وكانت كاماليسواري تانتي تستمتع باستراحة قصيرة، في لحظة تختلي فيها بنفسها قبل أن يعود أطفالها من المدرسة وتنشغل مجدداً.
وتروي قائلة: "بدأت العمل عندما كنت حاملاً بطفلي الثاني، واعترض جميع من في المنزل. وقالوا إنني إذا عملت، فستتأثر الأعمال المنزلية التي كنت أتولى مسؤوليتها وحدي. لكنني أصررت، أردت الخروج من المنزل وأن أفعل شيئاً خاصاً بي".
على مدار السنوات التسع الماضية، عملت كاماليسواري عاملةً صحيةً محليةً في إطار البعثة الوطنية للصحة الريفية في ولاية آسام.
لكن مواعيد عملها غير اعتيادية وتتطلب منها أن تنتقل من منزل إلى آخر، وأحياناً تضطر للبقاء في الخارج طوال الليل في حالة ولادة طفل. ولكن مهما كان موعد العمل، تستيقظ كاماليسواري في الساعة الخامسة صباحاً كل يوم لإنهاء أعمالها المنزلية ولا تريح قدميها إلا بعد الساعة 10 مساءً، وتبقى خارجاً أحياناً حتى ساعة متأخرة من الليل لإنهاء أعمال حفظ السجلات التي يتطلبها عملها.
وأثناء موسم الحصاد، تكدح في حقلهم الزراعي كذلك. حتى هذا العام، عندما ارتفع راتبها إلى 43 دولاراً شهرياً، كانت كاماليسواري تعمل مقابل 14 دولاراً شهرياً فقط، بالإضافة إلى بعض البدلات والحوافز. وعلى الرغم من ذلك، لا يقتصر عملها على الرعاية الصحية بل يمتد إلى العمل الانتخابي وحملات أخرى.
تعتمد الهند اعتماداً كبيراً على العاملات المحليات مثل كاماليسواري للوصول إلى سكان الريف وتنفيذ سياساتها. وعلى الرغم من انخفاض الأجور، فهُنّ من قلائل النساء الهنديات القادرات على تنظيم أعمال الرعاية التي لا يتقاضين عليها أجراً وتحدي الأنظمة الذكورية والالتحاق بعمل مدفوع الأجر خارج المنزل. وبالنسبة لملايين الأخريات، فلا يزال إيجاد الوقت وفرصة العمل مدفوع الأجر هدفاً بعيد المنال.
تعريف عمل المرأة في عالم ذكوري
تقضي النساء في الهند حالياً 352 دقيقة يومياً في أعمال لا يتلقين عليها أجراً، مقارنة بـ52 دقيقة يقضيها الرجال في الأعمال نفسها. وهذه الفجوة بين الجنسين من بين الأكبر في العالم.
ويشير تقرير صدر مؤخراً عن منظمة العمل الدولية (ILO) إلى أن أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر هي السبب الرئيسي لوجود النساء خارج قوة العمل. وقال التقرير إن 606 ملايين امرأة في سن العمل حول العالم تؤدي أعمال رعاية غير مدفوعة الأجر على أساس التفرغ، مقارنةً بـ41 مليون رجل. وبالمعدل الحالي، سيستغرق الأمر 210 سنوات لسد الفجوة الحالية بين الجنسين والمتعلقة بالوقت الذي تستغرقه أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، ما يعني استمرار حرمان النساء من الفرص مقارنة بالرجال.
وعلى الرغم من أن هذه ظاهرة عالمية، لكنها تبرز بشكل خاص في الهند. فهناك، على الرغم من نمو الناتج المحلي الإجمالي، فضلاً عن تحسين معدل الإلمام بالقراءة والكتابة وانخفاض معدلات الخصوبة، يتراجع معدل القوة العاملة النسائية تراجعاً حاداً، لذا فإن النساء اللائي يشكلن حوالي نصف سكان البلاد أصبحن مشاركات في القوى العاملة بنسبة 24 في المائة فقط.
وهذه النسبة أيضاً من بين الأدنى في العالم. وفي الوقت نفسه، على الرغم من تناقص مشاركة النساء في القوى العاملة، فإن ضيق الوقت (أو الوقت الذي يقضينه في العمل غير مدفوع الأجر) لا يزال يتضاعف، مثلما أشار تقرير صدر مؤخراً عن منظمة أوكسفام في الهند بعنوان Mind the Gap.
ويقول شير فيريك من منظمة العمل الدولية إن النمو الاقتصادي في الهند لم يستطع توفير فرص عمل كافية يمكنها استيعاب النساء بسهولة، بخاصة في المناطق الريفية.
ومع تزايد أعداد الرجال الذين يهاجرون إلى البلدات والمدن بحثاً عن وظائف، فهم يتركون خلفهم النساء لتولي شؤون أعمال المنزل غير مدفوعة الأجر التي تساعد الأسرة.
على سبيل المثال، يسلط تقرير Mind the Gap الضوء على أنه من بين 60 مليون وظيفة توفرت بين عامي 2000 و2005، كان هناك 14.6 مليون وظيفة تُعزى إلى ارتفاع عدد العاملات اللائي لا يتقاضين أجراً في القطاع الزراعي؛ فقد كانت الوظائف مدفوعة الأجر من نصيب الرجال فيما كانت الوظائف غير مدفوعة الأجر تُترك للنساء. لذا، على الرغم من إسهام النساء في الاقتصاد بشكل أو بآخر، فإن الجزء الرئيسي من عملهن - المتمثل في الرعاية المنزلية غير مدفوعة الأجر - لا يزال خفياً ولا يُفسَّر في الإحصاءات الرسمية.
وتشير التقديرات إلى أن الاعتراف بهذا العمل والاستثمار العام المباشر في اقتصاد الرعاية الذي يشكل نسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي يمكن أن يؤدي إلى توفر 11 مليون وظيفة جديدة. وحتى يحدث ذلك، ستواصل النساء الهنديات كفاحهن لتأمين مكان لهن في الاقتصاد المتنامي.
كسر القوالب النمطية
بالنسبة لشامبا ساردار، البالغة من العمر 27 عاماً وإحدى المقيمات في مدينة كولكاتا الهندية، فإنَّ زواجها من رفيقها منذ فترة طويلة جاء مبشراً بأشياء عدة لكنَّه آل في النهاية إلى اضطرارها إلى الرحيل وهي مريضة بشدة وحاملةً ابنها البالغ من العمر خمس سنوات. كان يومها يبدأ في الساعة الخامسة صباحاً وينتهي عند منتصف الليل، وكانت تؤدي وظائف غريبة طوال اليوم لكسب دخلٍ إضافي.
قالت "كان زوجي يُسهِم بمبلغٍ نقدي أصغر في مصروفات الأسرة الممتدة مقارنة بأخيه، لذا كنت أضطر إلى تعويض ذلك بمضاعفة مجهودي الجسدي في المنزل". وفي العام الماضي 2018، حين بدأت شامبا تلقّي التدريب لتكون سائقةً محترفة، كان زوجها وأقرباؤه غير راضين عن الوقت الذي كانت تقضيه خارج المنزل، وواجهت إساءاتٍ نفسية على مرِّ أشهر عدة.
وتهدف مؤسسة آزاد، التي تلقت فيها شامبا تدريبها على القيادة، إلى كسر القوالب النمطية المرتبطة بتقسيم الأدوار الجنسانية الذكورية في أماكن العمل. وأوضحت دولون غانغولي، مديرة برنامج آزاد في كولكاتا، أنَّ النساء اللواتي يعملن المؤسسة معهن يحملن عبء العنف المنزلي ومقاومة أسرهن والأعمال المنزلية إلى التدريب كل يوم.
وقالت إن "الغياب عن التدريب هو المشكلة الأكبر" بسبب هذه العوامل. لكنَّ المؤسسة حاولت علاج ذلك بتشجيع النساء على التحدث إلى أفراد أسرهن حول تقسيم الأعمال المنزلية أو التأقلم مع الوقت المنخفض الذي أصبحن يقضينه في المنزل، ما قد يعني تناول وجبة كاري واحدة بدلاً من ثلاث. وشجعتهن دولون كذلك على استخدام رواتبهن في أشياء مفيدة مثل شراء طنجرة ضغط أو استئجار ثلاجة، ما قد يقلل من الوقت الذي يقضينه في الطهي. واستطاعت العديد من النساء التوفيق بين التدريب والمنزل، فيما ترك بعضهن التدريب.
وفي السياق نفسه، سلَّط تقرير Mind the Gap الضوء على مشكلة العمل بدون أجر، وذكر أنَّه يقلل الوقت الذي تقضيه المرأة في العناية الشخصية والترفيه، ما يسبب استنزاف الصحة والرفاهية وتقويض حقوق الإنسان الأساسية.
تعيش شامبا الآن مع والدتها، وتعمل سائقةً محترفة وتتقاضى 100 دولار شهرياً. وقالت: "يمكنني أخيراً شراء الحليب والسبانخ والفيتامينات لي، وهي أشياء كنت أضحي بها سابقاً على الرغم من حالتي الصحية السيئة لأنني كنت أضطر إلى إعطاء الأولوية لاحتياجات الآخرين".
ما الذي ينبغي فعله؟
ترى سوتشاريتا بوميك - وهي متطوعة مدنية في شرطة كولكاتا تعمل في مستشفى SSKM الحكومي وتبلغ من العمر 40 عاماً - أنَّ العيش بالقرب من العمل وقرار البقاء عزباء مكَّناها من الرضا عن عملها إلى حدٍّ ما.
وقالت "لدي العديد من الزميلات المتزوجات اللواتي يسافرن ساعتين تقريباً بالقطار للوصول إلى المدينة من أجل العمل. وفي بعض الأحيان، يصلن إلى منازلهن بحلول منتصف الليل، ويتعين عليهن الحضور إلى العمل بحلول الساعة 7 صباحاً في اليوم التالي. ولا يحصلن على راحة. لذا أعتقد أن أماكن العمل بحاجة إلى أن تأخذ في الاعتبار هذه العوامل، وأنَّ هؤلاء النساء مضطرات إلى أداء كل العمل في منازلهن أيضاً".
ووفقاً لتشاريتي تروير مور، رئيسة قسم الأبحاث المتعلقة بالهند في برنامج دليل تصميم السياسات بكلية كينيدي في جامعة هارفارد، من المهم أن تشجع السياسات في البلاد خيارات العمل المرنة والعمل بدوام جزئي للنساء. وقالت "معظم النساء البعيدات عن القوى العاملة، اللواتي يقُلن إنهن مشغولاتٍ بأداء الواجبات المنزلية لكنَّهن على استعدادٍ للعمل، ذكرن أنَّهن يرغبن في وظائف منتظمة بدوام جزئي.
غير أنَّ الوظائف التي تشغلها النساء في الهند تكون بدوامٍ كامل". لذا تقترح مور أنَّه قد يكون من المفيد تعيين موظفاتٍ حكوميات إضافيات في الوظائف التي تشهد احتكاكاً مباشراً بالعملاء مثل تانتي، التي لا تزال مُثقلة بأعباء العمل الزائدة في هذا القطاع الذي يعاني نقص الموظفين.
وبالنسبة للنساء أمثال تانتي وشامبا، تشكل رعاية الأطفال مصدر قلق كبير، ومسؤوليةً مُلقاة على عاتق النساء فقط. لذا كانت تانتي تتمنى زيادة راتبها ليكون على قدر العمل الفعلي الذي كانت تؤديه، وبذلك كان المال سيتوفر لديها لتوظيف امرأة أخرى من أجل رعاية ابنها حين كان صغيراً، بدلاً من تركه تحت رحمة الجيران.
فيما صاحت شامبا متسائلة "أنا محظوظة لأن أمي تعتني بابني الآن، لكن ماذا سيحدث لو أصبح العبء ثقيلاً للغاية عليها يوماً ما؟ فهي في النهاية امرأة تحمل عبء العمل المنزلي كذلك. لست واثقة من الخيارات الأخرى المتوفرة لديَّ حينئذ".
توصلت دراساتٌ في الهند إلى أن جمع الحطب من أجل الوقود وجمع مياه الشرب هما الأعمال الأكثر استهلاكاً للوقت من بين أشكال الأعمال غير مدفوعة الأجر التي تؤديها النساء. لذا فإن توفير مواقد لا تحتاج إلى الحطب أو أسطوانات غاز نفطي مسال عبر برامج حكومية يمكن أن يوفِّر للمرأة حوالي 70 ساعة سنوياً، وفقاً لما ذكره تقرير Mind the Gap.
وفي هذا الصدد، أشارت مور إلى أنَّ هناك حاجةً إلى إدخال أجهزة موفرة للعمالة من شأنها أن تقلل عبء العمل غير مدفوع الأجر الذي يقع على عاتق النساء. إذ قالت إن "هناك بعض الحلول التي قد تكون مفيدة مثل تسهيل الحصول على مياه نظيفة أو تمويل التكنولوجيا التي يمكن أن تقلل من الوقت المستهلك في العمل غير مدفوع الأجر ودعمها، وتشجيع تطوير حلول خاصة أو مزيجٍ من الحلول العامة والخاصة للسماح للمرأة بقضاء وقتٍ أكبر في العمل مدفوع الأجر. فعلى سبيل المثال، يمكن للرعاية النهارية المحلية للأطفال أن توفر فرص عمل لبعض النساء وتُشجِّع البعض الآخر على العمل خارج منازلهن".
ومن جانبها تعتقد شامبا أن حجم العمل غير مدفوع الأجر الذي تؤديه النساء في الهند له علاقةٌ كبيرة بعجز المرأة، لذا ثمة حاجةٌ إلى بذل جهد شخصي تبدأ فيه كل امرأة بالدفاع عن نفسها ومنحها الأولوية، حتى لو أسفر ذلك عن كلفة ما. وقالت "لا يمكننا انتظار تغيير المجتمع. نحن المجتمع. لذلك إذا تغيرنا، فسيضطر المجتمع تدريجياً إلى التغيُّر معنا".