قبل أسبوعين أعلنت وزارة الثقافة الفلسطينية استشهاد 41 فناناً وكاتباً وناشطاً ثقافياً منذ بدء الحرب على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فلماذا تستهدف إسرائيل التراث الفلسطيني؟ وكيف اغتالت رموز الثقافة الفلسطينية من فنانين وأدباء منذ النكبة حتى الآن؟
كنفاني يدفع ثمن هويته
كان حادث اغتيال الأديب والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني، من الموساد الإسرائيلي في 8 يوليو/تموز 1972، الرسالة الأوضح لملاحقة كل من يحمل ويدافع عن الهوية الفلسطينية وعدالة قضيتها حتى لو بالقلم.
وتخلصت إسرائيل من كنفاني صاحب "أدب المقاومة" بتفجير سيارة مفخخة في العاصمة اللبنانية بيروت، وقد كانت برفقته ابنة أخته لميس التي استُشهدت على بُعد أمتار من السيارة.
كنفاني من مواليد عكا، وفي عام 1948 لجأ مع عائلته إلى مخيمات بيروت، ودرس وتخرج في جامعة دمشق، وعمل مدرساً في وكالة غوث، ثم انتقل إلى الكويت ليعمل صحفياً، ثم عاد إلى بيروت عام 1960 ليعمل في صحيفة "الحرية" التابعة لحركة القوميين العرب، وأصبح عضواً في المكتب السياسي للجبهة الشعبية، ثم متحدثاً رسمياً لها ومحرراً عامّاً لجريدتها.
وفقاً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فقد وضعت رئيسة وزراء الحكومة الإسرائيلية آنذاك، غولدا مائير، قائمة بأسماء قياديين ومفكرين في الجبهة، على رأسهم غسان كنفاني، لاستهدافهم بعد وقوع حادثة مطار اللد، ففي مايو/أيار عام 1972 نسّقت مجموعة من الجيش الأحمر الياباني مع الجبهة الشعبية بإطلاق النار في مطار اللد الإسرائيلي الواقع في تل أبيب، ما أسفر عن قتلى وجرحى إسرائيليين.
اغتيالات من قبل نكبة 48
يقول الدكتور عاطف أبو سيف وزير الثقافة الفلسطيني، إنّه في الحرب الأخيرة على غزة حتى يوم 7 يناير/كانون الثاني الماضي، استُشهد 41 كاتباً وفناناً، بينهم شعراء كبار مثل سليم النفار والفنانة إيناس السقا.
ويضيف أبو سيف لـTRT عربي، أن نضال الشعب الفلسطيني في التاريخ الحديث قبل حرب غزة، الذي بدأ منذ أكثر من قرن، شهد استشهاد كثير قبل النكبة وبعدها.
ويوضح أنه في هذا النضال قال الشاعر الشعبي نوح إبراهيم في قصيدته الشهيرة "دبرها يا مستر ديل، بالكن على إيدك تنحل"، التي كتبها عام 1936 في أثناء الثورة الفلسطينية على الاحتلال الإنجليزي.
ويتابع الوزير الفلسطيني: "كذلك الشاعر عبد الرحيم محمود الذي قال:
سأحمل روحي على راحتي … وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق … وإما ممات يغيظ العدا.
واستُشهد في قرية الشجرة وهو يحارب العصابات الصهيونية ضمن مجازر النكبة عام 1948".
طرق أخرى لاغتيال المثقف
يقول الصحفي المصري سيد محمود، إنّ الصراع أصبح أكثر شراسة على المنصات المتعددة على الإنترنت، وهو ما ظهر واضحاً في الحرب الأخيرة على غزة مع نمو الأصوات الرافضة للسياسات الإسرائيلية.
ويوضح محمود لـTRT عربي، أن "إسرائيل حاولت السيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً في الشهر الأول من الحرب، بتعمد حذف منشورات وتعليقات وإشارات لأصوات فلسطينية، ولولا أن موقع إكس (تويتر) كان لديه مسار موازٍ لظلت الأصوات مقموعة".
ويلفت إلى أن إسرائيل وحلفاءها في المؤسسات الأكاديمية حول العالم كانوا دائمي الانتقاد لأطروحات الناقد إدوارد سعيد منذ انخراطه في المنظومة السياسية، وواجه بشراسة عملية التسوية التي جرت مع ياسر عرفات بعد الإعلان عن السلطة الفلسطينية.
ويردف: "أيضاً المعركة التي حدثت على تدريس شعر محمود درويش في المدارس الإسرائيلية، وكان درويش وقتها بحكم عالميته وشهرته يمثل الذاكرة الفلسطينية، وواقع أنه يعيش في جزء من الأراضي المحتلة ضمن نفوذ إسرائيل كان يسبب لهم مشكلة مضاعفة".
ويُرجع محمود السبب إلى أن الصراع على ضوء أفكار ما بعد الحداثة هو صراع بين سردية إسرائيل التي تستند إلى القوة في تسييد روايتها، فيما الفلسطيني يستند إلى دور الذاكرة ودور المثقف حامل الذاكرة.
ويتفق معه د.أبو سيف، وزير الثقافة الفلسطيني، إذ يقول إن إسرائيل تحاول تحريف التاريخ ونفي الفلسطيني خارج كتب التاريخ والجغرافيا.
ويوضح: "لهذا استحدثنا في الوزارة الإدارة العامة للرواية والذاكرة الوطنية، ليس فقط بهدف الحفاظ على التراث، ولكن لطرح سؤال (صراع الرواية) للنقاش وتزويد الأطفال والأجيال القادمة بالمعلومات الكافية للدفاع عن الرواية الفلسطينية، ولتثبيت الهوية الموجودة.
ويشير الوزير الفلسطيني إلى أن طرق اغتيال المثقف أو الفنان الفلسطيني اختلفت مع الحرب الجارية، إذ اعتمدت قوات الاحتلال خلال هذه الحرب على القصف المباشر لأماكن سكن الصحفيين والكُتاب والمباني الأثرية، فيما كانت من قبل عمليات تفجير، مثل تفجير سيارة غسان كنفاني أو غرفة ماجد شرار بأحد الفنادق.
محاربة الرواية والسينما الفلسطينية
ويتحدث أبو سيف عن سرقة لوحات فنية كانت في البيوت والشركات، وكذلك هدم مراسم الفنانين مع النكبة، ودُور السينما، ومن أشهرها سينما الحمراء بيافا، التي غنى فيها عبد الوهاب وأم كلثوم، وعُرضت فيها الأفلام المصرية والفلسطينية، وحوّلتها إسرائيل إلى مبنى إداري، إلى جانب تدمير 15 داراً سينمائية أخرى.
ورغم ذلك التدمير الذي لحق بدور السينما في أثناء النكبة، فإنّ سيد محمود يرى أن في السينما الفلسطينية الآن تحولاً إيجابياً، موضحاً أن ذلك التحول كان "من خلال أنسنة الصراع أكثر منها للجوء إلى الصورة التقليدية التي تضع محتلاً في مواجهة مقاوم، وإنما طرحت شكل الحياة اليومي والعيش المشترك".
ويضرب محمود مثالاً بفيلم "200 متر"، وهو من الأفلام التي طرحت مشكلة الصراع بشكل ذكي وساخر، وتجلى ذلك أكثر مع ثلاثية علي سليمان التي ذهبت أفلامه إلى مهرجانات كبيرة، وكذلك أعمال رشيد مشهراوي، وفق محمود.
كما أن الروائيين الفلسطينيين الجدد لم يسلموا من محاربة إسرائيل لهم، ليس فقط في الأراضي المحتلة، بل أيضاً خارجها.
وفي هذا السياق يؤكد محمود أن إسرائيل مارست في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023، ضغوطاً كبيرة لكي لا يجري تكريم الروائية الفلسطينية عدنية شبلي عن روايتها "تفصيل ثانوي" في معرض فرانكفورت للكتاب، ولكن جرى تكريمها في معرض الشيخ زايد، كما صدرت الرواية عن دار "تنمية" بالقاهرة.
تدمير كنائس ومساجد ومبانٍ أثرية
في حربها على قطاع غزة دمرت إسرائيل -فضلاً عن المنازل والطرق- عديداً من الأماكن الأثرية والمساجد والكنائس والمكتبات والمسارح.
يوضح وزير الثقافة الفلسطيني أنه جرى تدمير "مسرح الشوا" و"مسرح النادي الثقافي الأرثوذكسي" و"مسرح جمعية الوداد"، والمكتبة العامة في بلدية غزة.
ويوضح أنها أكبر مكتبة تضم ذخائر وطنية وكتباً صدرت في نهايات القرن التاسع عشر، وكذلك الصحف التي صدرت قبل النكبة والأرشيف المركزي للبلدية والوثائق الاقتصادية والسياسية التي يصل عمرها إلى أكثر من 100 عام، كما أن المبنى نفسه مبنى تاريخي.
ويردف أبو سيف: "ودمروا متحف رفح، ومتحف الثوب الذي كان يضم 320 قطعة تطريز عمرها أقدم من عمر الاحتلال".
وإجمالاً، فإن عدد المباني التي جرى تدميرها -حسب الدكتور عاطف أبو سيف في حصر الوزارة حتى 7 يناير/كانون الثاني الماضي- هو 195 مبنى، من ضمنها "كنيسة بروفيروس"، وهي ثاني أقدم كنيسة في العالم، واستُشهد داخلها مصلّون في أثناء صلاتهم، وكذلك حمام السمرة، وهو أقدم حمام تركي في فلسطين مشيَّد منذ 600 عام، وبيت السقا، وهو مركز ثقافي تراثي.
ويشير إلى حدوث هدم جزئي لقلعة برقوق في خان يونس، وهدم الميناء الفينيقي القديم في غزة، وهو من أقدم مواني العالم، كما دمَّرت تل سكن، وهو موقع استكشافي يضم المدينة الإدارية القديمة لفلسطين القديمة، وكذلك المقبرة البيزنطية وبقايا الكنيسة البيزنطية.
ويؤكد أبو سيف أنه منذ بدء الاحتلال لفلسطين، دمروا الأماكن التاريخية مثل نابلس والخليل والقدس وبيت لحم وأريحا، بالإضافة إلى سرقة الآثار، مشيراً إلى تحوَّل عديد من المؤسسات الثقافية إلى مراكز إيواء للنازحين مثل مركز رشاد الشوا وجمعية نوى.
بدوره يلفت سيد محمود إلى تفجير إسرائيل مبنى مؤسسة الأبحاث الفلسطينية في بيروت عام 1982، وكذلك محاولتها إغلاق "مجلة الهدف" وكل المطبوعات التي كانت خلفها منظمة التحرير خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية.