يشهد المجال الإعلامي تحولاً ملحوظاً في إنتاج ونشر المحتوى المرئي عبر المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح هذا المحتوى وسيلة فعّالة لنقل الأحداث بسهولة وسرعة لأكبر عدد من الجماهير.
وفي ظل تسارع انتشار المرئيات التي تحتوي مشاهد عنيفة، بات لذلك أثر واضح على وعي الأفراد وسلوكياتهم النفسية، يصل إلى حد التأثير على استجابتهم العاطفية وطَبْعَنة العنف.
مشاعر سريعة
منذ أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 في قطاع غزة، شهدت وسائل التواصل الاجتماعي حراكاً قوياً ومنظماً لمناصرة القضية الفلسطينية، ونتج عنه تضامن واسع في كل أنحاء العالم من خلال الحشد الجماهيري والنشر بلغات عدّة، كما كان لمئات الفيديوهات القاسية القادمة من غزة، أثرٌ في نقل ما يحدث وتوسيع دائرة التضامن.
ورغم استمرار تدفق الفيديوهات المؤثرة من قطاع غزة، فإن حدّة التفاعل العاطفي قد قلّت عبر هذه المنصات، فسرعة "الريلز" وتناوب الفيديوهات بين القادمة من الحرب وتلك التي تنقل الحياة الطبيعية في أماكن أخرى، وبين مشاهد الحزن والفرح، يصبح الاعتياد وسيلة للتكيّف مع واقعٍ قاسٍ ومتغير.
ويصف علم النفس هذه الحالة بـ"التكيف" الذي يعمل على تحرير الفرد من المخاوف، وعادةً ما يُستخدم هذا المفهوم بشكل إيجابي، ولكن يحذّر علم النفس المجتمعي من تأديته لـ"فقدان التعاطف" نتيجة اعتياد رؤية مأساة الآخرين.
وفي هذا الصدد، يوضح الدكتور النفسي حذيفة برهم، في حديثه مع TRT عربي، أن متابعة مشاهد العنف المكررة في الفيديوهات السريعة بسطحية من دون عمق، والاستسلام لردّات الفعل العاطفية من دون وعي قد يولّد نوعاً من ألفة هذه الصور.
ويترك هذا النوع من التكيف المجتمعي مع العنف أثراً سيئاً على الأصحاب الحقيقيين للألم، إذ تُعبّر سارة التي فقدت أخاها تحت القصف في غزة، عن حزنها من مطالبةً البعض في فيديوهات مواقع التواصل بضرورة العودة للحياة الطبيعية، فيما ما زالت عائلتها تعاني الحصار والقصف.
وتقول سارة لـTRT عربي، إن "البعض يطالب من خلال فيديوهات إنستغرام بضرورة التخطي، وهذا يُشعرني بخيبة أمل ووحدة وخوف من المحيط".
كيف أسهمت الأدوات السينمائية في طَبْعَنة العنف؟
ويقول عالم النفس المعروف سيغموند فرويد إنّ "الجنس والعدوان نزعتان أساسيتان في الإنسان"، ومن هذا المفهوم تمرر شركات الإنتاج العالمية كثيراً من الرسائل المبطنة عبر مشاهد القتل والعنف، بالإضافة لتحقيق ربح سريع من خلال تلك المواد.
وحسب الإحصائيات، احتل المسلسل الكوري "لعبة الحبّار"، المليء بحوادث القتل، المرتبة الأولى في الـ82 دولة التي عُرض فيها، وهو مسلسل يحكي قصة مئات من اللاعبين يتنافسون على جائزة ضخمة، ويواجهون تحديات قاسية تتعلق بالموت والنجاة.
وتبدأ لعبة البقاء على قيد الحياة بإطلاق النار على اللاعبين المتنافسين الذي يحمل كل منهم رقماً، كل منهم على الآخر، ما يعزز مفاهيم غير إنسانية ويوحي بفكرة أن الإنسان مجرد رقم يُتخلص منه.
وفي هذا السياق، يقول الدكتور حذيفة برهم إن "شكل المجازر الموجودة في الأفلام تخدم بشكل لا واعٍ تحويل حكايات البشر إلى أرقام لا تفرق إحداها عن الأخرى، لكنّ هذا في الواقع بالنسبة لأم ثكلى أو لطفل يتيم، ليس رقماً إنما حياة كاملة فُقدت".
القتل تأثراً
في أبريل/نيسان 1999 قتل طالبان في ثانوية "كولومباين" بكولورادو الأمريكية عدداً من زملائهم وأساتذتهم، ثم تبين أن الطالبين اعتادا معاً لعبة فيديو عنيفة تسمَّى "دوم"، وأفضت هذه الحادثة إلى حالة من الذعر من ألعاب الفيديو المثيلة، والتركيز على دراسة علاقتها بالسلوك العُدواني في الحياة.
وقد كشفت دراسة أجرتها جامعة اوكسفورد البريطانية بالتعاون مع جامعة روتشستر في الولايات المتحدة، نُشرت بمجلّة "الشخصية وعلم النفس الاجتماعي"، عن أن ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة يمكن أن تزيد من الأفكار والمشاعر والسلوكيات العدوانية للشخص.
وأشارت الدراسة ذاتها إلى أن هذه الألعاب قد تكون أكثر ضرراً من التلفاز والأفلام؛ لأنها تعتمد على التفاعل وخوض تجارب الإثارة بشكل مباشر.
ووفقاً لاستطلاع دولي في عام 2021، فإن أكثر من 8 من كل 10 مستخدمين للإنترنت الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و44 عاماً يشاركون في ألعاب الفيديو.
ويقول الشاب مصطفى (25 عاماً)، إنه يقضي يومياً ما لا يقل عن خمس ساعات في لعبة "ببجي" القتالية، التي تندرج ضمن ألعاب الفيديو "البقاء"، إذ يتنافس نحو مائة لاعب في ساحات كبيرة للقتال، والفائز هو من ينجح في البقاء حياً بعد قتل الجميع.
ويضيف مصطفى لـTRT عربي، أنه في البداية كان يلعب للترفيه وللهروب من ضغوط الحياة، "لكن مع مرور الوقت بدأ يشعر بالحاجة للعب أيضاً بهدف ممارسة القتل، فرمي النار والقنابل وتعذيب اللاعب المنافس له يُشعره بنشوة ومتعة كبيرة".
من ناحية أخرى، نفى ريتشارد ويسلون، المسؤول في الاتحاد التجاري لصناعة ألعاب الفيديو في بريطانيا، علاقة ألعاب الفيديو بممارسة العنف في الواقع، وفق شبكة "بي بي سي".
كيف يُتفادى التبلّد العاطفي تجاه العنف؟
ويُشير علم النفس الاجتماعي إلى أن الاستجابة العاطفية للأفراد أمر حيوي لتنظيم المجتمع ورفض السلوكيات العنيفة مثل القتل والضرب، وفي حالة التبلد العاطفي تجاه تلك السلوكيات، ينتج عن ذلك خلل في المجتمع.
ولتجنب شعور اعتياد مشاهد العنف، يعرض الدكتور حذيفة برهم الاستراتيجيات التي يجب اتباعها، وعلى رأسها أهمية تفادي التعرض لمشاهد العنف بشكل مكرر، إذ يمكن أن يؤدي التكرار إلى تطبيع الألم، ما يخلق حالة قبول مجتمعي لمثل هذه السلوكيات.
ويشدد برهم على أهمية مشاهدة المقاطع التي تحوي القتل والعنف بوعي، يدفع المُشاهد لأن يكون له دور في إيقاف هذا الألم، إذ إن الفاعليّة ليست مرتبطة بالعواطف، التي تضعف وطأتها مع الوقت، إنما بالوعي.
ويبيّن أن تمارين التأمل يمكنها أن تعزز من مشاعر التعاطف، بمساءلة الشخص عواطفه ومبادئه ووضع نفسه مكان الطرف الآخر، ليرى ما الذي يمكن أن يصنعه من أجله وماذا يتوقع من الآخرين لو كان في مكان الشخص المعنَّف.