تابعنا
في الرابع من يوليو/تموز الجاري أعلنت القاهرة وأنقرة أنهما سترفعان مستوى العلاقات الدبلوماسية بينهما إلى مستوى السفراء، حسب بيان مشترك صادر عن وزراتي خارجية البلدين.

في الرابع من يوليو/تموز الجاري أعلنت القاهرة وأنقرة أنهما سترفعان مستوى العلاقات الدبلوماسية بينهما إلى مستوى السفراء، حسب بيان مشترك صادر عن وزراتي خارجية البلدين. ورشحت مصر السفير عمرو الحمامي سفيراً لها في أنقرة، فيما رشحت تركيا السفير صالح موطلو شن سفيراً لها في القاهرة.

وفي الأحد الماضي أكمل البلدان عملية تعيين السفراء، لتعود الحياة مرة أخرى إلى السفارتين اللتين تحملان كثيراً من التاريخ للمبنيَين وكذلك للعلاقات.

وبإعلان هذه الخطوة، أردنا أن نُلقي الضوء على تاريخ هذَين المبنيَين في القاهرة وإسطنبول لنكتشف تاريخ عميق بين البلدَين يمتد إلى ما قبل عصر السفارات والمسميات الدبلوماسية.

سفارة مصر.. هدية السلطان

في أرقى أحياء إسطنبول وعلى ضفاف البوسفور، تحديداً في منطقة بيبك يقع قصر الوالدة باشا أو كما يعرف اليوم بمبنى القنصلية المصرية. يعود تاريخه إلى أواخر القرن الثامن عشر. كان ملكاً للأميرة أمينة ابنة إلهامي باشا ابن عباس حلمي الأول، وزوجة الخديو توفيق، ووالدة الخديو عباس حلمي الثاني. فكيف وصلت ملكيته إلى الوالدة باشا وكيف آلت ملكيته مرة أخرى إلى الحكومة المصرية؟

حسب موقع بلدية إسطنبول، أنشئ المبنى في عام 1781، وكان يعيش بالقصر دوري زاده السيد محمد عطاء الله أفندي، أحد شيوخ الإسلام في عهد السلطان عبد الحميد الأول، وعاش به خمسة من شيوخ إسلام عائلة دوري زاده، حتي عصر السلطان محمود الثاني.

وبعد وفاة آخرهم، عبدالله أفندي، أعاد رؤوف باشا، أحد كبار وزراء السلطان محمود الثاني، بناء القصر ثم انتقل إلى الوزير الأعظم علي باشا.

بعد وفاة علي باشا في قصره عام 1871، اشترى السلطان عبد الحميد الثاني هذا القصر من ورثة محمد أمين علي باشا، مقابل 15 ألف ليرة تركية ذهبية، وعند تولي الخديو عباس حلمي الثاني حكم مصر، أهداه إياه السلطان عبد الحميد ليكون مقراً مريحاً له عند زيارته إسطنبول. لكن الخديو أمر ببناء قصر آخر له على الجانب الأسيوي بعد عدة سنوات، وأهدى هذا القصر إلى والدته الأميرة أمينة هانم.

كانت أمينة "الوالدة هانم" شخصية كاريزمية يحترمها السلطان بشدة، لهذا، ولأول مرة في تاريخ الدولة العثمانية، منحها السلطان لقب "باشا".

ويُعرف هذا القصر الساحلي أيضاً باسم "قصر الخديوي"، وكانت الوالدة باشا تذهب كل عام في الصيف إلى قصر بيبك حتى توُفّيَت عام 1931.

بعد إعلان الجمهورية التركية بعدة سنوات، تمكن محامي الوالدة باشا من إثبات أحقيتها في ملكية القصر، وبعدها قرَّرَت الوالدة باشا أن تؤول ملكية القصر إلى الحكومة المصرية في حال وفاتها، ليصبح مقرّاً دائماً للمفوضية الملكية المصرية، ومن بعدها للدولة المصرية، حتى الآن ولأكثر من 100 عام بعد وصيتها.

أما وصف القصر، فغالباً يُضمَّن في قائمة أعمال المعماري ريموندو دي أرنوكو، ولكن يُعتقد أنه صمّمه اثنان من المهندسين المعماريين النمساويين، فابريسيوس وأنطونيو لاسياك، ويتميز القصر بتصميم هو مزيج بين الفن العثماني والباروكي الحديث.

للقصر ثلاث واجهات، إحداها تطل مباشرة على مضيق البوسفور، وواجهة تطل على شارع جودت باشا الرئيسي، تتزيّن الواجهات بأعمال خشبية معقدة وزخارف جصية بارزة وبعض النقوش الهيروغليفية وزهور اللوتس، وصُمّمَت شرفات الطابق الأول بأشكال فنية جذابة، ويتوسط أعلى المبنى نقش لبعض أسماء الله الحسنى. كما أن القصر المكون من 48 غرفة يتزيَّن داخلُه بأرضيات وأعمدة رخامية فخمة وأسقف مزخرفة ونوافذ زجاجية ملونة.

استضاف القصر خلال فترة وزير الخارجية علي باشا، مؤتمرات وزيارات ودعوات مهمة، فعُقد فيه مؤتمر الجبل الأسود عام 1858، واستُضيف فيه الإمبراطور فرانز جوزيف. اليوم وبجانب خدمة المواطنين المصريين وغيرهم، تُقام فيه معارض وحفلات وفاعليات ثقافية تحتفي بالتاريخ المشترك بين البلدين.

مقر سفارة تركيا القديم.. قصر في حضن النيل

تقع سفارة تركيا في قلب القاهرة، تحديداً في شارع الفلكي، أقدم شوارع القاهرة الخديوية. ولكن قبل أن يصبح هذا مكانها كانت السفارة التركية تقع في قصر الأميرة كاظمة بالجيزة على النيل، في أربعينيات القرن العشرين.

يعود تاريخ إنشاء قصر الأميرة كاظمة إلى عام 1918 عندما وضع تصميمه المهندس المعماري الإيطالي لاشياك لمالكته الأولى الأميرة كاظمة، وهي ابنة السلطان حسين كامل.

وحسبما ذكرته الباحثة سهير عبد الحميد في كتابها "قصور مصر" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، فالأميرة كاظمة من مواليد يوليو/تموز 1876 وتوفيت في روما بعد مرضها عام 1921.

بعد وفاة الأميرة كاظمة آل قصرُها، الذي لم يكن اكتمل إنشاؤه بعد، إلى شقيقها الأمير كمال الدين حسين، الذي كان يعيش مع زوجته الأميرة نعمت الله توفيق في قصره الكائن على أطراف كوبري قصر النيل جهة ميدان الإسماعيلية (التحرير حالياً)، ولأنه لم يكن في حاجة إليه ظل القصر مغلقاً، وبعد وفاته آلت ملكيته إلى زوجته الأميرة نعمت الله.

وعام 1942، اشترى سفير الجمهورية التركية بالقاهرة حينذاك نعمان طاهر سيمن، هذا المبنى باسم الحكومة التركية، بغية تخصيصه منزلاً للسفير مباشرة من الأميرة نعمت الله، بمبلغ 33 ألف جنيه مصريّ.

مقر السفارة التركية الحالي.. رحلة بحث مُضنية

أما عن مقر السفارة التركية الحالي في شارع الفلكي بوسط البلد بالقاهرة، بحثت TRT عربي عن تاريخ المبنى، في موسوعة "القاهرة الخديوية: رصد وتوثيق عمارة وعمران القاهرة بمنطقة وسط المدينة " للدكتورة سهير زكي حواس عضو المجلس القومي للتنسيق الحضاري، فلم نجد أي معلومة عنه، كذلك بحثنا في عدة كتب مثل" قصور مصر" للباحثة سهير عبد الحميد فلم نجد له ذكراً أيضاً بين خمسين قصراً ورد ذكرها في الكتاب، فتواصلنا مع الكاتبة التي تُعِدّ الآن الجزء الثاني من كتابها، فقالت لـTRT عربي إنها لم تجد أي معلومة عن هذا المبنى ولم تلاحظ أي علامة على واجهته أو تمثال أو عبارة منقوشة يُستدلّ بها على تاريخه.

وتصفحت TRT عربي كتاب "القاهرة: خططها وعمرانها" للكاتب أيمن فؤاد سيد، الذي يرصد تطور القاهرة منذ الفتح الإسلامي عام 20 هـ وإنشاء مدينة الفسطاط حتى القاهرة الفاطمية وصولاً إلى القاهرة الخديوية معتمداً على كتاب المقريزي والخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك، وغيرهما، وأيضاً لم يرد في الفصل الخاص بالقاهرة الخديوية وقصورها أي إشارة عن المبنى.

الكاتب الصحفي يحيى وجدي مدير التحرير السابق لجريدة "منطقتي" المعنية بتأريخ وأخبار منطقة وسط القاهرة، قال لـTRT عربي إن عدم ذكر المبنى في الموسوعة الخديوية معناه أن الجهاز القومي للتنسيق الحضاري لم يستطع توثيق المبنى، لسببين: أولهما مستبعد، هو أن لا يكون المبنى قديماً، والثاني الذي يرجحه هو أن المسؤولين عن المبنى رفضوا دخول أفراد التنسيق الحضاري لتوثيق المكان.

حاولنا التواصل مع الجهات الرسمية فلم نتوصل إلى معلومة، وأرسلنا سؤالنا إلى الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، فجاء الردّ بأنه "رُفع طلب المعلومات" ولم يردنا الرد منهم حتى لحظة كتابة هذه السطور.

بالتجول في شارع الفلكي وشارع محمد سعيد الذي يقع مبنى السفارة بينهما، لم نلاحظ أي علامة على واجهة القصر الذي يبدو قصراً صغيراً أو فيلا ذات طابع أوروبي قديم، ولم نجد أي نقش أو عبارة أو تمثال.

بسؤال بعض البوابين وأصحاب المحالّ، قال صاحب معرض في الستينيات من عمره يقع محله على الجهة المقابلة للسفارة، إنه منذ طفولته يعيش في هذا الشارع، ويتداول السكان القدامى أن هذا المبنى كان لرجل تركيّ، أهداه للحكومة المصرية قبل ثورة يوليو 1952، وبعدها تَحوَّل إلى مقرّ للسفارة التركية.

المعلومة نفسها أكَّدها صاحب مكتبة في الشارع، بقوله إنه وُلد هناك وكبر على أن هذا المبنى أهداه رجل تركي للحكومة المصرية.

ليتضح من كل ما سبق أن هذَين المبنيَين العريقين الشاهدين على الروابط الممتدة في التاريخ بين مصر وتركيا، هما ملكيتان لمواطنَين تركيَين، اختارا أن يتبرّعا بهما ليكونا سفارتَين للبلدين.

TRT عربي
الأكثر تداولاً