يوافق 19 أكتوبر/تشرين الأول الذكرى الـ19 لوفاة القائد التاريخي للبوسنة علي عزّت بيغوفيتش، الذي كان سياسياً ومناضلاً شعبياً في البوسنة والهرسك، كما اعتُبِر فيلسوفاً إسلامياً مرموقاً، إذ تعرّض لقضايا مهمة تتعلّق بالعالم الإسلامي المعاصر، وتجديد الفكر الإسلامي.
لبيغوفيتش مسيرة حافلة مع النضال والفكر، سُجِن عدة مرات لتبنيه قضايا شعبه وأمته الإسلامية. من أبرز مؤلّفاته كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب"، الذي قدّم من خلاله اجتهادات مهمة في تفسير ثنائية الإنسان والطبيعة، مرتكزاً على الصدام الفكري بالعالم الحديث، ومتسائلاً عن موقف الإسلام من هذا الصدام الهائل.
نشأة قائد
وُلِد علي عزّت بيغوفيتش في 8 أغسطس/آب 1925 في مدينة "بوسانا كروبا" البوسنية لعائلة تنحدر من البوشناق الأرستقراطيين الذين فرّوا من العاصمة الصربية بلغراد إلى البوسنة والهرسك في منتصف القرن التاسع عشر.
كان جدّ بيغوفيتش جندياً في الجيش العثماني وتزوّج من امرأة تركية، ثم أصبح الجدّ بعد سنوات رئيساً لبلدية مدينة "بوسانا كروبا"، فيما كان والد بيغوفيتش محاسباً. وفي الفترة ما بين الحربين العالميّتين، انتقلت العائلة إلى العاصمة سراييفو، حيث تلّقى بيغوفيتش تعليماً علمانياً صارماً، وكانت الدعاية الشيوعية في يوغوسلافيا في أوجها قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية. فتأثّر بيغوفيتش، الذي كان وقتئذ في سنٍ مبكرٍ للغاية، بالأفكار والكتابات الشيوعية الرائجة.
وكان لتلك الفترة أثر كبير في حياة القائد البوسني، فبعد أشهر من التردّد الروحي والفلسفي، سرعان ما عاد لإيمانه وتعمّقه في الأمور الدينية. ووصف بيغوفيتش تلك الفترة في كتاباته التي سطّرها في وقت لاحق من حياته: "الكون من دون الله بدا بالنسبة لي محض عبث".
لم ينغلق بيغوفيتش على فكر بعينه، فكان مُطّلعاً وقارئاً نهِماً للأعمال الكلاسيكية للفلسفة الأوروبية، وكان لديه معرفة واسعة بكتابات جورج فيلهلم، وفريدريش هيغل، وباروخ سبينوزا، وإيمانويل كانط.
أكمل بيغوفيتش تعليمه الثانوي عام 1943، والتحق بجامعة سراييفو وحصل على الشهادة العليا في القانون عام 1950، ثمّ نال شهادة الدكتوراه عام 1962، وعلى شهادة عليا في الاقتصاد عام 1964. وكان المفكر البوسني متقناً لعدة لغات أجنبية هي الألمانية، والفرنسية، والإنجليزية، مع إلمام جيد باللغة العربية، حيث اعتبر الأخيرة وسيلة للاتصال بالقرآن الكريم والاطّلاع على التيارات الإسلامية وتجاربها.
بين الحركي والفكري
خلال الحرب العالمية الثانية، احتُلّت سراييفو من الكروات، وأقدم بيغوفيتش في تلك الفترة مع عدد قليل من أقرانه على التعبير عن وجهات نظرهم السياسية من خلال إنشاء "جمعية الشبان المسلمين". ورغم الحروب والنزاعات والصراعات الدامية القائمة، نجح بيغوفيتش في تسجيل جمعيته، التي ركّزت على قضايا متنوّعة تتعلّق بالسياسة الخارجية والمسائل الروحية، إذ أفرد أعضاء الجمعية اهتماماً خاصاً بقضايا العالم الإسلامي المعاصر، رافضين الاستعمار والهيمنة الغربية على بلاد المسلمين.
كان بيغوفيتش ورفاقه يرون أنّ الحالة السياسية في العالم الإسلامي رديئة وغير مستدامة، بينما الإسلام هو فكر حياة، يمكن تحديثه، ويجب ذلك، دون أن يفقد أيّاً من جوهره، حسب تعبيرهم.
لم تكن مسيرة الجمعية مفروشة بالورود على طول الخط، فبين قمع السلطات والصراعات الداخلية، مضت أعوام طوال في نقاشات ومراجعات بين أعضاء "الشبان المسلمين"، وكان صدام بيغوفيتش الأوّل مع الجمعية عام 1944، حين شكّلت الجمعية تحالفاً مع جريدة الحجاز ورابطة الأئمة، ولم يكن بيغوفيتش يتفق مع طرح جريدة الحجاز، وذلك بسبب نهج الجريدة في التفسير الصارم للإسلام، والذي اعتبره المفكّر البوسني "السبب في منع تطوّر الفكر الإسلامي في الداخل والخارج".
وكان الرئيس البوسني السابق صاحب اجتهادات مهمّة في تفسير الظواهر الإنسانية في كل تركيباتها، المرتبطة تمام الارتباط بثنائية الإنسان والطبيعة وهي نقطة انطلاقه، والركيزة الأساسية لنظامه الفلسفي. وحجر الزاوية عنده أنّ العالم الحديث يتميّز بصدام فكري، ويرى أننا جميعاً متورطون فيه، سواء كمساهمين أم ضحايا، ويتساءل ما موقف الإسلام من هذا الصدام الهائل، وهل للإسلام دور في تشكيل هذا العالم الحاضر؟. لقد حاول بيغوفيتش في مؤلفه الشهير "الإسلام بين الشرق والغرب"، الذي يُعتبر أهم إنتاجاته الفكرية، أن يجيب على هذا السؤال.
بيغوفيتش مناضلاً وزعيماً
خاض بيغوفيتش قبل توليه رئاسة البوسنة والهرسك عديداً من الصراعات مع خصومه من الشيوعيين واليوغوسلاف والصرب، حول رفض الاحتلال وتجديد الفكر الإسلامي، ما تسبّب في سجنه في عمر مبكّر، إذ لم يكن قد تجاوز عمره 26 عاماً عندما اعتقله الشيوعيون وحكموا عليه بالسجن ثلاث سنوات.
استمر نضال بيغوفيتش سنوات طويلة، حاول خلالها الدفاع عن قضيته بشتّى الطرق والوسائل، إلّا أنّ نشاطه وهمّته لم ترُق لنظام جوزيف بروز تيتو الديكتاتور اليوغوسلافي، ليزجّ به و12 من النشطاء البوسنيين في السجن ثانيةً عام 1983، مع حكم مغلّظ بـ14 عاماً نتيجة نشرهم مجموعة متنوعة من المبادئ الإسلامية عُدّت على أنها جرائم، ووصِفت على أنها "نشاط معادٍ مستوحى من القومية الإسلامية".
وفي عام 1988 مع تعثّر الحكم الشيوعي في البوسنة والهرسك عُفي عنه، وأُفرِج عنه بعد ما يقرب من خمس سنوات قضاها في السجن، وكان وضعه الصحي قد تدهور وتعرّض لمضاعفات خطيرة جرّاء الأوضاع السيئة في السجن.
وفي الأعوام التالية استمرّ نشاط بيغوفيتش، ونشر بياناً بعنوان "الإعلان الإسلامي"، مُعرباً فيه عن وجهات نظره بشأن العلاقات بين الإسلام والدولة والمجتمع، فسّرت السلطات في جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الاتحادية ذلك الإعلان أنه بمثابة "دعوة لإدخال الشريعة الإسلامية في البوسنة واستنساخ تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية".
ومع حلول نهاية الثمانينيات، أُدخِل نظام التعددية الحزبية في يوغوسلافيا، فأسّس بيغوفيتش ونشطاء بوسنيون آخرون حزباً سياسياً أسموه "حزب العمل الديمقراطي"، وكان الطابع الإسلامي هو سمة هذا الحزب. وسرعان ما حصل حزب بيغوفيتش على شعبية واسعة داخل المجتمع البوسني، وفاز بأكبر حصة من الأصوات في الانتخابات البرلمانية عام 1990، ليُنصَّب عزت بيغوفيتش رئيساً لجمهورية البوسنة والهرسك.
وفي عام 1992، اندلع نزاع مسلح محتدم في البوسنة والهرسك استمرّ حتى نهاية عام 1995، بين قوات جمهورية البوسنة والهرسك والقوات التي نصّبت لنفسها كيانات جديدة وهي القوات الصربية البوسنية والقوات الكرواتية البوسنية، المدعومة مباشرة من صربيا وكرواتيا، وتخلّل ذلك مجازر للقوات الصربية كان أدماها وأبشعها مجزرة سربرنيتسا.
في البداية، كان بيغوفيتش يراهن على أنّ المجتمع الدولي سيرسل قوات حفظ السلام من أجل منع وقوع الحرب، ولكن هذا لم يحدث، واستمرّ الصراع المحتدم في جميع أنحاء البلاد، ولمدّة 3 سنوات ونصف، قاد بيغوفيتش البوسنيين للصمود والقتال في سراييفو المحاصرة والتي تحيط بها القوات الصربية.
واستنكر الرئيس البوسني فشل الدول الغربية في وقف العدوان الصربي، وتحوّل بدلاً عن ذلك إلى العالم الإسلامي، وتلقّت الحكومة البوسنية المال والسلاح من مختلف الدول الإسلامية عقب المجازر التي وقعت ضد مسلمي البوسنة، ليستمر نضال وصمود بيغوفيتش ومسلمي البوسنة من خلفه، إلى أن عُرِضت عليه خطة سلام ووقف إطلاق النار.
وبين سبتمبر/أيلول وديسمبر/كانون الأول 1995، قاد بيغوفيتش البوسنة خلال عملية السلام، وانتهت الحرب رسمياً بعد التوقيع على اتفاقية "دايتون للسلام" في باريس، والتي نصّت على تشكيل مجلس الرئاسة البوسني، مسؤليته إدارة البلد بدلاً من رئيس مباشر يحكم البلاد.
وأُنشِئ مجلس الرئاسة البوسني ليتولى رئاسة البلاد، على أن يتألّف المجلس من ثلاثة أعضاء، انتُخِب من بينهم بيغوفيتش مجدّداً، إلى أن انتهت فترة ولاية المجلس عام 2000، وقرّر بيغوفيتش اعتزال الحياة السياسية، ثم توفي في 19 أكتوبر/كانون الأول 2003 عن عمر يناهز 78 عاماً، بعد أن قاد بلاده لعقود من الحرب إلى السّلام.