تابعنا
وبينما لم تكترث السلطات الأوروبية لمأساة قارب الهجرة، أجرَت بعض الدول عمليات بحث وتحقيقات مكثّفة وواسعة للعثور على "الأثرياء الخمسة"، ما وضع هذه البلدان التي كان لديها استعداد إنفاق الملايين موضع انتقادات حادّة من نشطاء حقوق الإنسان.

استحوذت قضية الغواصة "تيتان" (Titan) على اهتمام عالمي الأسبوع الماضي، بعد كارثة الانفجار الداخلي التي حلّت بها وعلى متنها خمسة أشخاص، كانت في رحلة لزيارة حطام سفينة "تيتانيك" في المحيط الأطلسي قبالة سواحل أمريكا الشمالية.

واختفت الغواصة التابعة لشركة "أوشن غيت" (OceanGate)، في 19 يونيو/حزيران، وبعد قرابة يومين من عمليات البحث المستمرة، أعلنت الشركة المشغلة تعرّضها إلى انفجار داخلي "كارثي" أودى بحياة ركابها الخمسة على عمق 3200 مترٍ تحت السطح في موقع حطام "تيتانيك".

الركاب الخمسة المتوفون من أثرياء العالم، وهم: الرئيس التنفيذي للشركة ستوكتون راش، ورجل الأعمال الباكستاني بريطاني شاه زادة داوود وابنه سليمان، والملياردير والمستكشف البريطاني هاميش هاردينغ، والمستكشف وعالم المحيطات الفرنسي بول-هنري نارجوليه، وبلغت تكلفة الراكب الواحد على الغواصة 250 ألف دولار.

وتزامن اختفاء الغواصة مع أنباء مصرع مئات الأشخاص منتصف الشهر الحالي من الجنسيات الباكستانية والسورية والمصرية والفلسطينية، كانوا على متن قارب صيدٍ متهالك قبالة السواحل اليونانية، إذ تجاهل العالم غرق 700 لاجئ بينما انشغلت وسائل الإعلام العالمية بالحديث عن الغواصة.

وبينما لم تكترث السلطات الأوروبية لمأساة قارب الهجرة، أجرَت بعض الدول عمليات بحث وتحقيقات مكثّفة وواسعة للعثور على "الأثرياء الخمسة"، ما وضع هذه البلدان التي كان لديها استعداد إنفاق الملايين موضع انتقادات حادّة من نشطاء حقوق الإنسان، كازدواجية المعايير وعدم مساواة في التعامل مع المآسي الإنسانية.

ووفق بيان شركة "أوشن غيت" كان هؤلاء الخمسة من هواة المغامرات والاكتشافات، ورغم هول الطريقة التي ماتوا فيها، إلّا أنّ هذا لا ينفي هوس الأثرياء بالمغامرات السياحية الخطرة، أو ما يعرف بـ"السياحة المتطرفة"، فـ"أوشن غيت" هي شركة تُقدم رحلات سياحية في أعماق البحار وفق ما تُعرّف به نفسها، ما يتيح لمن يريد أن يخوض هذه التجربة دفع أموال طائلة رغم مخاطرها.

ولا تُعدُّ "أوشن غيت" الشركة الوحيدة التي تُقدم تجربة استكشاف أماكن غريبة وخطيرة، فهي مثال واحد على "السياحة المتطرفة" (Extreme Tourism) التي أصبحت أكثر شيوعاً لمن يستطيعون تحمّل تكاليفها.

و"السياحة المتطرفة" أو "سياحة الخطر"، هي السفر أو الرحلات التي تتميّز بقوة إحساس المغامرة أو حتى بالخطر الجسدي، إذ يعرّض الناس حياتهم للخطر من أجل المُتعة، وقد يكون الجانب "المتطرف" لهذا النوع من السياحة مستمداً من الوجهة نفسها أو من نشاط واحد أو أكثر يُشارك فيه خلال رحلة الشخص، وقد تترتب "السياحة المتطرفة" من المسافر نفسه أو تنسيقها بوساطة شركة سفر مغامرات.

ولعلّ وجهات السفر المعتادة للأثرياء لم تعد مغرية لهم، كالرحلات إلى جزر الكاريبي أو بلدان البحر المتوسط المُشمسة، إذ أصبحت وجهتهم إلى أماكن غير معتادة، مثل رحلات السفاري الخطرة أو إلى أعلى قمم الجبال، كإيفرست أو الغوص في البحار.

رحلات فضاء

لكن الأمر لم يعُد يقتصر على الرحلات في كوكب الأرض سواء أعالي الجبال أم أعماق المحيطات، بل تعدّى إلى تطوير قطاع "السياحة الفلكية الناشئة" في منافسة ثلاثية بين رواد الأعمال المليارديرية جيف بيزوس وإيلون ماسك وريتشارد برانسون، وفق تقرير لوكالة رويترز.

وتوضّح الوكالة أنّ شركة فيرجن غالاكتيك (Virgin Galactic Holdings) التابعة لريتشارد برانسون قالت مؤخراً، إنّ أول رحلة فضاء تجارية لها، تُسمى "Galactic 01" ستنطلق في الفترة بين 27 و30 يونيو الجاري، وأبلغت الشركة عن تراكم 800 عميل في رحلات الطيران ذهاباً وإياباً والتي تستغرق 90 دقيقة تقريباً، ومعظمهم دفعوا بين 250 و400 ألف دولار لشراء تذاكرهم.

ومنذ يونيو 2021، عندما بيع المقعد الأول مقابل 28 مليون دولار، قدّم "مشروع بيزوس للسياحة الفضائية" (Blue Origin) رحلات مدتها 10 دقائق على ارتفاع 107 كيلومترات، وراء "خط كارمان" وهو الحدّ الفاصل بين المجالين الأرضي والفضائي، إذ يختبر الركاب لحظات قليلة من انعدام الوزن قبل النزول مرة أخرى إلى الأرض.

أما رحلات "SpaceX Starship"، المملوكة للملياردير إيلون ماسك، فقد اشترى بالفعل ملياردير ياباني كل مقعد في الرحلة الأولى للصاروخ، الذي يهدف إلى قضاء ثلاثة أيام في الدوران حول القمر والوصول إلى مسافة 200 كيلومتر من سطح القمر، وكان إطلاق الرحلة في عام 2023، إلّا أنّها أُجّلت بسبب الاختبارات الفاشلة للمركبة.

قطاع يَدر المليارات

ووفق ما ذكرته صحيفة "ديلي ميل" البريطانية، فإنّ هؤلاء الذين يطلق عليهم "سُيّاح الخطر" يقودون قطاع سياحة من المقرر أن يبلغ قيمته أكثر من تريليون دولار بحلول عام 2030، إذ اكتسبت "سياحة المغامرات" شعبية منذ سنوات بلغت قيمتها 366 مليار دولار في عام 2022، وذلك حسب دراسة حديثة أجرتها شركة "Allied Market Research".

ويُعدُّ الدافع الأساسي للخوض في تجربة "السياحة الخطرة أو المتطرفة" هو زيادة الدخل المُتاح للإنفاق لهؤلاء الأفراد، وتذاكر الطيران الرخيصة بشكل متزايد، إضافة إلى تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على أفراد يريدون الحصول على صور تذكارية أو "سيلفي" مميزة تحقق انتشاراً على تلك المواقع.

ورغم الأنشطة التي طالما عُرفت أنّها في سياق "المغامرة الخطرة"، مثل ركوب الدراجات في الجبال والمشي لمسافات طويلة والتخييم، فإنّها لم تعد تُشكّل إرضاءً كاملاً للبعض، ما جعل مفاهيم مثل "السياحة المتطرفة" بالنمو أكثر مع رغبة الأشخاص تعريض صحتهم وربّما حياتهم إلى الخطر باسم المرح.

وتطرقت مجلة نيوزويك "Newsweek" أيضاً إلى بعض هذه المغامرات بأسعار خيالية قد تصل إلى ملايين الدولارات، إذ تقدّم إحدى شركات السياحة الفاخرة مثل شركة "Abercrombie & Kent" فرصة البحث عن نمور البنغال في الهند أو مواجهة الغوريلا الجبلية المُهدّدة بالانقراض في البرية الأوغندية، إذ جُهّز العديدُ من هذه الإجازات الفاخرة بأقصى درجات الراحة، كما يمكن للعملاء الحصول على طائرة خاصة.

تأمين ضدّ الخطر

وأشارت صحيفة "ديلي ميل" إلى أنّ هناك شركات تأمين توفر "تأمين ضدّ الأعطال" لأشخاص قد يعرّضون أنفسهم إلى الخطر، إذ توفر الشركات مساعدة فورية لمن هم في مأزق، مثل شركة "Global Rescue"، التي يصف رئيسها التنفيذي دان ريتشاردز، للصحيفة طبيعة العمل بقوله: "يدفع الأشخاص رسوماً سنوية، وإذا وجدوا أنفسهم عالقين بشكل ميئوس منه في أثناء القيام بأنشطة قاسية، فإنّ فريقي يأتي ويخرجك من المأزق".

ويعمل ريتشاردز في هذا المجال منذ ما يقارب عقدين من الزمن، ويقول إنّه "لم يرَه ينمو بهذه السرعة كما الأمر في العامين الماضيين"، وهو أمر ترجع أسبابه إلى جائحة كورونا، مشيراً إلى أنّه "قبل الوباء كان الناس راضين عن الأنشطة السياحية التقليدية مثل السير إلى جانب نهر السين بفرنسا، والذهاب إلى المعارض الفنية، والاستلقاء على الشاطئ إذ كان الناس سعداء بذلك".

واستدرك القول: "الناس الآن أصبحوا يسعون إلى المغامرة بطرق متطرفة، ففي كل مرة أعتقد أنّني سمعت عن أكثر الأشياء تطرفاً، يظهر شيئاً جديداً".

وضرب ريتشاردز مثالاً على ذلك تسلق قمة جبل "إيفرست"، إذ كانت القمة مزدحمة للغاية في عام 2020 لدرجة أنّ الناس كانوا يصطفون في طابور للوصول إليها بعد تخفيف إجراءات الإغلاق الأولى لوباء كورونا.

ويلفت إلى أنّ "الجثث تتناثر الآن على قمة الجبل، إذ تقوم وكالات السياحة عديمة الضمير بإعطاء تذاكر المتسلقين قليلي الخبرة الذين يواجهون المشكلات بسرعة"، مشيراً إلى أنّ "فريقه أجرى 168 عملية إنقاذ في جبال الهيمالايا العام الماضي وحده، نصفها تقريباً في إيفرست".

مطاردة الإثارة

وتعدّ مطاردة الإثارة و"الشعور بالحيوية" دوافع يسعى إليها الأثرياء لخوض تجارب قد تكون مُميتة أحياناً، وهي تجارب باهظة لا يستطيع إلّا القلّة خوضها، وفق الدكتور وعالم النفس سكوت ليونز، الذي تضم لائحة عملائه بعضاً من أثرياء العالم.

وأضاف إلى صحيفة "ديلي ميل"، بأنّ الأثرياء يسعون إلى الشعور بالحيوية، فبعد تحقيقهم استقرارية موارد مالية يجعلهم يخوضون وراء الإثارة والمخاطرة في أماكن أخرى.

ويلفت ليونز إلى أنّ الأشخاص الذين يمتلكون عرضة للشعور بالملل يبذلون مزيداً من سُبل البحث عن الإثارة، وخاصةً مع زيادة الإسراف في الحياة، إذ تصبح الأمور أقل إثارة.

ويوضّح عالم النفس أنّ هناك آلية فسيولوجية قوية وراء البحث عن الإثارة، مضيفاً القول: "هناك مزيج كامل من الهرمونات التي تُطلق عند الإثارة، تُخفف الألم وتمنح شعوراً بالقوة، ما يرفع الأشخاص فوق عتبة الشعور بالخدر أو الملل".

وتحفّز الإثارة -حسب ليونز- جزءاً من الدماغ يُسمى اللوزة الدماغية، التي تُقيّم النتائج السلبية للأشياء، وتُشغل بشكل أساسي سلسلة من الهرمونات، مثل الدوبامين والتستوستيرون والنورادرينالين والأدرينالين والسيروتونين، معتبراً أنّ "هذه الإثارة توازي الجري لمسافة تزيد على ثلاثة أميال، كما أنّه يمكن مقارنتها بتعاطي المخدّرات".

TRT عربي
الأكثر تداولاً