تحوّل ترمب من فنان فاشل إلى سياسي قادر على مخاطبة جماهيره وضمان ولائهم، يشبه الأمر تاريخ هتلر في الفشل الفني مقابل نجاحه في تحويل رؤيته إلى واقع. وإذا كانت مأساة الفن تكمن دوماً في تلك المسافة التي يقطعها الفنان من خياله إلى الواقع، فلا يبدو أن الأمر يختلف كثيراً في السياسة.
وقد كشفت سياسات ترمب منذ توليه الرئاسة عن تلك العلاقة المضطربة مع الثقافة والفنون والإعلام، بما تعنيه من تعبير إبداعي قادر على توجيه الجماهير وتشكيل ميولهم وأفكارهم.
فكيف تعامل المجتمع الأميركي، الذي تأسّس على ادعاء قيم الحرية والتنوع الثقافي، مع ما نتج عن موقف ترمب من الثقافة والفنون؟
ترمب كفنان فاشل
نشر ترمب كتاب The Art Of The Deal عام 1987، وبعيداً عن الأقاويل التي أثارها محرر الكتاب وناشره بعد تولي ترمب للرئاسة عن مقدار تدخله في محتوى الكتاب المنشور باسمه والذي تصدّر مبيعات النيويورك تايمز حينها، فقد تضمن الفصل الثالث من الكتاب حادثاً لترمب حين كان تلميذاً في الصف الثاني من المدرسة حيث هاجم مدرس الموسيقى بالضرب حتى تورّمت عينه، وبرر ذلك بقوله: "لأنني ظننت أنه لا يفقه شيئاً في الموسيقى".
كما أبهرت أضواء السينما ترمب في شبابه، على الرغم من فشله في تحقيق نجاح فني، فقد فكر في الالتحاق بمدرسة السينما في كاليفورنيا، إلا أن الأمر انتهى به إلى القيام بأداء أدوار هامشية محدودة في أفلام قليلة، والتي لم تُلقِ عليه الضوء بوصفه فناناً كما كان يطمح، فانصرف عنها.
هل تاريخ ترمب من الفشل الفني لا يخص أحداً غيره؟ يصعب قبول ذلك، فموقف الشخصيات السياسية تجاه الثقافة والفنون يعكس رؤيتهم الخاصة للعالم، والتي لا يمكن التعامل معها بمنطق شخصي نظراً إلى كونها شخصيات ذات سيادة تمتلك أدوات فرض تصوراتها على المجتمع، وتهميش الرؤى الأخرى التي تتناقض معها.
حادث الحمام الذهبي
بعد تولي ترمب الرئاسة بأيام قليلة، أرسل البيت الأبيض إلى متحف جوجنجهم في نيويورك يطلب منه استعارة إحدى لوحات فان جوخ لوضعها في غرفة الجلوس الخاصة بالرئيس وزوجته داخل البيت الأبيض، جاء رد المتحف حاسماً: "هذه اللوحة ممنوعة من السفر إلا في المناسبات النادرة"، اعتذر المتحف عن تقديم اللوحة وقدم بدلاً منها عرضاً آخر، يتضمن إرسال عمل فني بعنوان"أميركا"وهو عبارة عن مقعد حمام من الذهب الخالص كان موضوعاً في الطابق الخامس من المتحف "ليستخدمه زوار المتحف في فعل ينم عن الكرم" كما وصفته مديرة المتحف، التي أرفقت رسالتها بصورة لمقعد الحمام البرّاق معربة عن أملها في قبول البيت الأبيض لهذا "العرض الخاص".
كشف هذا الموقف للمتحف عن رؤية الأوساط الفنية غير المرحبة بالرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، ومهّد لنمط جديد من التعامل مع الإدارة الأميركية اليمينية.
قمع يُحفز الإبداع
بدأت تصريحات الرئيس ترمب عن الصحافة والفنون تستثير عدداً كبيراً من المبدعين الأميركيين، بما مثّلته من تهديد واضح لعقود من حرية التعبير وتنوع الأفكار التي قدّمت الولايات المتحدة نفسها للعالم من خلالها.
فقد وصفه الأديب الأميركي المرموق بول أوستر في بداية فترته الرئاسية بـ"رجل نشأ في ظل فلسفة البلاي بوي" موضحاً أنه يقصد مجلة بلاي بوي التي مثلت قوة اجتماعية دافعة تجاه أفكار محددة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث تعكس "كل تلك الإشارات البغيضة التي تحدّث بها ترمب عن المرأة، أي شيطان متغطرس هو رجل البلاي بوي هذا".
لم يتوقف أوستر عن مهاجمة ترمب بعد مرور ما يقارب العام على قيادته للولايات المتحدة، فقد عاد لنقده مجدداً حين وصف سياساته بأنها "تسعى إلى تفكيك المجتمع الأميركي".
لم يحاول ترمب استرضاء مجتمع المبدعين في أميركا، بل ذهب إلى أبعد من ذلك وبدأ في ممارسة سياسات قمعية تبدو شديدة الغرابة على المجتمع الأميركي، مدفوعاً بشعور أنه يملك ولاء الجماهير الشعبية بينما ينحصر أثر الفنانين والمبدعين في طبقة نخبوية محدودة الأثر سياسياً.
في يونيو الماضي، تم طرد روب روجرز من عمله، وهو واحد من أهم رسامي الكاريكاتير السياسي الأميركيين، الذي وصل عام 1999 إلى القائمة النهائية لجائزة البوليتزر، ونُشرت أعماله في مجموعة من أهم الصحف الأميركية كالواشنطن بوست والنيويورك تايمز، ما مثّل حادثة قمع ربما تكون الأولى من نوعها التي تتم بهذه الطريقة الفجة.
لم يتفاجأ روجرز بطرده من عمله في صحيفة البوستا جازيت بيتسبرغ بعد أكثر من 25 عاماً، واستبداله برسام كاريكاتير يميني، فقد رأى التمهيد للقرار قبل وقوعه.
"قبل حوالي ثلاثة أشهر من قرار الطرد، استدعتني الإدارة الجديدة وأخبرتني بأن رسوماتي المنتقِدة للرئيس ترمب غاضبة للغاية، وبأنني مهووس به"، كان هذا حديث روجرز في مقاله الذي نُشر في النيويورك تايمز عقب فصله بعنوان "لقد طُردت لأنني أسخر من ترمب" مضيفاً أن هذه القرارات تأتي من رئيس "يعتبر الصحافة واحدة من أكبر التهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة".
وقد تضمنت الثلاثة أشهر الأخيرة قبل قرار الفصل، مجموعة من القرارات الإدارية التي استهدفت أعمال روجرز، فقد رُفض 19 مقترحاً له من بينهم 6 مقترحات تم رفضها خلال أسبوع واحد، بالإضافة إلى كاريكاتير تم محوه بعد نشره بالفعل وظهوره على الموقع الإلكتروني للصحيفة!
أقيم معرض فني لعرض الرسوم التي رفضت الصحيفة نشرها لروجرز، تماماً عقب فصله كنتيجة طبيعية لهذا النوع من القمع المباشر، وتضمّن المعرض نحو 18 لوحة تنتقد سياسات ترمب في عدة قضايا منها: مقتل خاشقجي، والهجرة والفصل بين العائلات، وتصريحات ترمب المناهِضة للصحافة وحرية التعبير، وغيرها من القضايا السياسية المثارة حالياً.
"لقد قررت الصحيفة محو أعمالي الكاريكاتورية الناقدة لترمب، لكنني أخطط للجلوس على طاولة الرسم الخاصة بي كل يوم خلال فترته الرئاسية". كانت العبارة التي أنهى بها روجرز تعليقه على الأمر.
انتعاش الفن السياسي المقاوم
نتج عن هذا الموقف السياسي المضطرب والمتصاعد من الإدارة الأميركية، تحفيز المبدعين للدفاع عن الحريات التي تم اكتسابها عبر سنوات طويلة حتى تحولت إلى إحدى القيم الأصيلة داخل المجتمع الأميركي.
تبلور ذلك في اتساع الفعاليات الثقافية والفنية ذات البعد السياسي والتي توجه انتقادات قاسية للرئيس ترمب وإدارته، بالإضافة إلى المبادرات الفردية التي تعبر عن نفسها في رسوم جرافيتي الشوارع والمساحات العامة.
فقبل أيام قليلة من انتخابات التجديد النصفي، وجهت الممثلة الأميركية الحاصلة على الأوسكار جين فوندا انتقاداً لترمب حيث شبهته بزعيم النازية الألماني أدولف هتلر في تعقيبها على وصفه للصحافة بـ"عدو الشعب الأكبر."
وأوضحت أن هناك الكثير من أوجه التماثل بين ترمب وهتلر يمكن ملاحظتها ببساطة أثناء القراءة عن السياق السياسي والاجتماعي الذي مهّد لصعود الرايخ وزعيمه، "مهاجمة الإعلام هي الخطوة الأولى تجاه الفاشية، فالإعلام المستقل هو حجر الأساس للعملية الديمقراطية، وهو ما يتم مهاجمته حالياً بسبب رجل سيِّئ، ويجب أن نضمن عدم استمراره".
مهاجمة الإعلام هي الخطوة الأولى تجاه الفاشية
وتزامناً مع انتخابات التجديد النصفي، انطلق معرض فني بعنوان الفن كشاهد: تصاميم سياسية ، ويعرض نحو 200 عمل فني بمشاركة 53 فناناً من مختلف الولايات الأميركية، تتناول جميعها قضايا أثيرت خلال عامين من حكم ترمب، منها حقوق المرأة والعنصرية والهجرة ومناهضة الحريات.
وقد أوضح فرانسيس توماس مدير المعرض أسباب اختيار توقيت العرض بقوله: "نظراً إلى هيمنة ظاهرة ترمب، فإنها لحظة حاسمة في التاريخ الأميركي تستلزم رفع الأصوات ومناقشتها مجتمعياً".
انتهت انتخابات التجديد النصفي بانتزاع الديمقراطيين أغلبية مجلس النواب من الجمهوريين، ما دفع ترمب لمحاولات التهدئة بإعلان ضرورة "العمل سوياً" خلال الفترة المقبلة، وهو ما يصعب تصوره نظراً إلى انعدام أرضية من التفاهم بين الجانبين، بالإضافة إلى ما مثّلته سياسات ترمب خلال العامين الماضيين من تهديد لصراع الهوية الأميركي الذي يتبناه اليسار، لكن ربما يكون لميزان القوى قول آخر، وهو ما ستكشفه الفترة القادمة.